الاستثمار بالإنسان السوري

حمدان العكله

يُقاس جوهر التنمية بقدرة الإنسان على تجديد ذاته والواقع من حوله، لأنَّ التنمية تنبع من وعيه بدوره في بناء المجتمع، وعندما يُفعِّل الإنسان طاقاته الكامنة ويعيد توجيهها نحو الإبداع والتغيير، يصبح محوراً للتحوُّل الحقيقي في مختلف مجالات الحياة. ومن هذا المنطلق، يُغدو الاستثمار في الإنسان فلسفة وجودية واستراتيجية وطنية، ولعل سوريا، وهي تخرج من رماد حرب طاحنة ونظام استبدادي أنهك مواردها وبَشَرها، تجد نفسها اليوم أمام مفترق طرق، إمَّا أن تعيد بناء ما تهدَّم حجراً بحجر، أو أن تؤسِّس لعقد اجتماعي وتنموي جديد قاعدته الإنسان وغاياته الإنسان. إنَّ عملية الاستثمار، في هذا السياق، تشير إلى تحوُّل عميق في نظرتنا إلى المستقبل، وإلى كيفية صنعه بأدوات بشرية واعية ومُمكنة، لذا فإنَّ إعادة بناء سوريا تبدأ من إعادة بناء الإنسان السوري وعياً ومعرفة وقدرة.

والحديث عن الاستثمار في الإنسان يفرض علينا تجاوز التعريفات التقنية إلى رؤية فلسفية ترى الإنسان غاية لا وسيلة، وقوَّة كامنة خلَّاقة يتمُّ استثمارها عبر توفير أفق معرفي وقيمي يحرِّره ويفجِّر قدراته لخدمة ذاته ومجتمعه. فالإنسان في عمقه مشروع مفتوح على الاحتمالات، وتتوقَّف فعاليته على البيئة التي يُوجد فيها، والمجالات التي يُمنح حرية التفاعل معها. إنَّ الاستثمار الحقيقي يعني تفجير طاقته الكامنة عبر إشراكه في الفعل الحضاري، وتحفيزه على التفكير، والمساءلة، والإبداع، فكما يقول المعلم باولو فريري: “التحرُّر لا يُمنح، بل يُنتزع بالوعي”، هنا، يصبح التعليم والتدريب أدوات تحرُّر، إذ إنِّهما يعيدان تشكيل وعي الإنسان بذاته ومكانه في العالم، فيتوقَّف عن التكيُّف مع الواقع المفروض ويسعى لتغييره.

الاستثمار بوصفه التزاماً أخلاقياً.. السعودية وسوريا في أفق جديد:

في سياق التحولات الإقليمية الراهنة، لا يمكن النظر إلى المنتدى السعودي– السوري للاستثمار الذي عُقد في دمشق في يوليو باعتباره مجرد تجمع مالي أو منصة لتبادل الصفقات، فحين يتمُّ توقيع أكثر من سبعة وأربعين اتفاقية تعاون تُقدر قيمتها الإجمالية بنحو 6.4 مليارات دولار، في مجالات تشمل الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا والاتصالات والتعليم، فإنَّ الحدث يتجاوز معناه الاقتصادي الضيق، ليحمل بعداً رمزياً عميقاً. إنَّ ما جرى من تدفُّق لرأس المال هو إعلان عن عودة منطق البناء بعد عقود من الهدم، وظهور خطاب جديد يرى في الاقتصاد نفسه أداةً لخدمة الإنسان، ووسيلة لبناء عقد جديد تتكامل فيه التنمية مع الكرامة والعدالة.

إنَّ مثل هذا الاستثمار في فلسفة الفعل السياسي التنموي يُقاس بما يشير إليه من تحوُّل في الرؤية، من بناء الحجر إلى تحرير المعنى، من منطق السيطرة إلى منطق الشراكة، وهو في الحالة السورية تحديداً، يمثِّل مداخلة على اللحظة التاريخية بهدف المشاركة في إعادة تخيُّل الكينونة السورية خارج رماد الحرب، وخارج نماذج الاقتصاد المترهِّل الذي أغفل الإنسان وهمَّشه. فالاستثمار الذي لا يُقاس بميزان السوق وحده، وإنما يندرج ضمن مشروع إنساني–تحرري، هو الاستثمار الذي يمكن استحضاره في الذاكرة الجماعية بوصفه تجربة تأسيسية، لا مجرد لحظة عابرة للاستهلاك أو الربح السريع.

إنَّ التوجُّه السعودي في هذا السياق يمكن أن يُقرأ على اعتباره جزءاً من مقاربة أوسع ترى أنَّ الدولة الحديثة لا تكتفي بترميم ما تهدَّم، بل تسهم في إنتاج شروط الإمكان لولادة جديدة، وإذا كانت سورية في أمسِّ الحاجة إلى هذا النمط من التدخُّل الذي يجمع بين رأس المال والبصيرة، بين الحضور الإقليمي والمسؤولية الأخلاقية، فإنَّ هذا المسار لا بدَّ أن يتعمَّق ويتحوَّل إلى تحالف معرفي– تنموي يُعيد رسم حدود الاقتصاد بوصفه استمراراً للفكر بأدوات أخرى.

آليات الاستثمار في الإنسان.. من المفهوم إلى الممارسة:

إذا كان الاستثمار في الإنسان هو الرهان الحقيقي لمشروع وطني تحولي، فإنَّ السؤال لا بد أن ينتقل من مستوى المبادئ إلى مستوى التفعيل: إذ كيف يمكن تحويل هذا المفهوم إلى ممارسة متجذِّرة في السياسات والبُنى؟

إنَّ الإجابة تبدأ من التعليم بوصفه الحقل الأول لإعادة تشكيل الوعي، لا مجرد نقل المعرفة، فالتحوُّل الجذري المطلوب في بنية التعليم يتعلق بإصلاح المناهج، وتجاوز التلقين نحو التفكير النقدي، وربط التعلم بسياق الحياة والعمل، وردِّ الاعتبار للفنون والفلسفة بوصفها أدوات أساسية لبناء الذات الحرة القادرة على التساؤل والمساءلة، ومن هنا، لا بدَّ أن تُعاد هيكلة الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، بحيث يصبح اقتصاد المعرفة هو البنية الحاكمة، لا اقتصاد الريع أو الاستهلاك المكرور، فالتعليم الرقمي، والتقنيات المتقدِّمة، وريادة الأعمال ضرورة سيادية لأيِّ مجتمع يريد تجاوز الهشاشة والتابعية وليست ترفاً معرفياً.

وفي السياق ذاته، تُعدُّ الصحة النفسية محوراً تأسيسياً في مفهوم الكفاءة الإنسانية، إذ لا يمكن تصوُّر ذات فاعلة دون اعتراف بعوالمها الداخلية المثقلة بجراح الحرب والعنف، لذلك، فإنَّ بناء منظومة رعاية نفسية متكاملة، وإدماجها ضمن السياسات التنموية، هو شرطٌ مسبق لتحرير الطاقة البشرية من أسر الكتمان والانكسار. ويبقى التمكين السياسي والاقتصادي للنساء والشباب علامة فارقة في أيِّ مشروع استثماري حقيقي في الإنسان، إذ ينبغي الانتقال إلى تشريعات عادلة تضمن المساواة، وتفتح المجال أمام المشاركة الفعلية في القيادة وصناعة القرار والمجال العام، فالتحوُّل يحدث حين يتحوَّل الإنسان ذاته إلى ذات فاعلة، مُمكَّنة، ومسؤولة عن مصيرها.

ختاماً، إنَّ لحظة الخراب التي تعيشها سوريا تعبِّر عن أزمة بنيوية عميقة متجذِّرة في بنى الفكر والنظام الاجتماعي والسياسي، حيث تراكمت أنماط من الإقصاء والتهميش والاستبداد وعطَّلت قدرة المجتمع على التجدُّد الذاتي، وجعلت من الانهيار نتيجة حتمية لا مفر منها، وإنَّ مستقبل سوريا يستلزم أن يكون الاستثمار في الإنسان خيار أنطولوجي، أي وجودي بامتياز؛ فهو نداء لتأسيس الدولة بدءاً من الإنسان، وإحلال الحرية محلَّ الإكراه، والمعرفة محلَّ الاستهلاك، فالدولة التي لا تجعل من الإنسان غايتها القصوى، ستظلُّ تدور في فلك البنى الفارغة والمظاهر المؤقَّتة، أمَّا الدولة التي تجعل من الإنسان عقلها ووجدانها ومصدر شرعيتها، فهي وحدها القادرة على التقدُّم واستعادة مكانتها التاريخية المعرفية العريقة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى