تتكتل الأقليات الدينية وتنغلق على نفسها نتيجة شعورها الدائم بخطر يهدد وجودها.
لطالما كانت دراسة المجموعات الإثنية ودورها في تشكيل الهوية القومية السورية موضوعًا معقدًا وشائكًا للباحثين والصحفيين المهتمين بهذا المجال، وتعود صعوبة هذه الدراسة إلى عدة عوامل منها انغلاق بعض الإثنيات على نفسها، سواء كان ذلك اختيارًا أم نتيجة ظروف قسرية، بسبب الانتماء الديني لهذه المجموعات وتعاليمها الخاصة التي قد تكون مختلفة أو غامضة في بعض الأحيان، ما يزيد من تعقيد فهمها وتحليلها.
تعرضت هذه المجموعات تاريخيًا للعديد من التحولات السياسية والإدارية نتيجة السيطرة المتعاقبة للدول المحتلة أو المستعمرة على الأراضي السورية. هذه التحولات أدت إلى تغيير تنظيم هذه المجموعات وعلاقاتها بمحيطها. كما أن غلبة النظام شبه العشائري، الذي يعتمد على التكتل والانغلاق للحفاظ على استمرارية الجماعات، لعبت دورًا كبيرًا في تعزيز هذا العزل.
من الأمثلة البارزة على هذه المجموعات في سوريا مجتمع الدروز، الذين يستقرون بشكل رئيسي في مدينة السويداء جنوب سوريا. ومع الذكرى السنوية الأولى لانطلاق المظاهرات السلمية في محافظة السويداء التي تصادف في 17 أغسطس/آب الحالي، نحاول من خلال ملف “بني معروف” تسليط الضوء على تاريخ الدروز ودورهم القومي في سوريا قبل وصول حزب البعث إلى السلطة، إضافة إلى علاقتهم مع أنظمة الحكم المختلفة في سوريا، وخاصة نظام الأسد الذي عمل على تهميش السويداء سياسيًا واقتصاديًا.
من هم دروز سوريا؟
يعود أصل الدروز عمومًا للقبائل العربية التي سكنت في سوريا الطبيعية واعتنقت دعوة التوحيد في القرن الحادي عشر ميلادي، ومن أبرز تلك القبائل قبيلة تنوخ التي تتبع للقيسيين وهم من عرب الشمال، وكذلك عدة قبائل من عرب الجنوب (اليمانيين) وعلى رأسهم قبيلة ربيعة، بالإضافة إلى عدد من العائلات التركية والكردية التي اعتنقت دعوة التوحيد.
خرجت دعوة التوحيد عن المنظومة الدينية الفاطمية في القرن الحادي عشر الميلادي، وخرق الخليفة الفاطمي أبو علي المنصور (الحاكم بأمر الله) لعادات توريث الخلافة، حيث أوصى بها لشخص ليس من سلسلة الإمامة الفاطمية وحرم ابنه منها، وأسس الحاكم بأمر الله لتعاليم دينية جديدة تستند إلى مقاربات الكتب السماوية مع العلوم الدنيوية والتعاليم الفلسفية السائدة حينها.
نُشرت الدعوة في العديد من البلدان العربية والآسيوية، وفُتح باب الدعوة لمدة 17 عامًا بين عامي 1017 و1034، وكان أكبر مريديها في بلاد الشام من عرب الجنوب وعرب الشمال (قيسيين ويمانيين)، وأُنشئت كتب مرجعية تُسمى (كتب الحكمة) وطقوس دينية مختلفة عن سابقاتها.
لكن “اختفاء” أو تصفية الحاكم بأمر الله واستلام ابنه الظاهر لإعزاز دين الله الفاطمي مقاليد الحكم، خلق حقدًا كبيرًا وتمت ملاحقة كل من اتبع هذه الدعوة والتنكيل بهم، فلجأ عدد كبير منهم إلى الجبال السورية مثل جبال لبنان والجبل الأعلى بالقرب من حلب، وفي جبال عامل بالقرب من فلسطين وجبال القلمون وبعض المناطق الجبلية الأخرى في بلاد الشام، لحماية أنفسهم وممارسة معتقداتهم الدينية الخاصة.
بعد استقرار أتباع الدعوة في لبنان، استطاعوا حكمه لفترات طويلة من خلال التنوخيين والمعنيين والشهابيين، لكن في فترة حكم الشهابيين حدثت العديد من المشكلات التي أدت إلى هجرة عدد كبير من أتباع الدعوة (الدروز) من جبال لبنان باتجاه الجنوب والشرق، فوصلوا لأول مرة مع نهاية القرن السابع عشر إلى جبل حوران، واستمرت الهجرات من الجبال في مختلف المناطق على فترات كان أكبرها بعد المعارك الدامية بين الدروز والموارنة في جبل لبنان عام 1860.
استقرار بعد صراعات
منذ وصولهم إلى جبل حوران، عاش الدروز طوال القرن التاسع عشر والقرن العشرين فترات حروب طويلة ودامية، فخاضوا معاركهم الأولى مع عشائر البدو المحيطة التي كانت ترعى في جبل حوران في فترة الربيع، وهو ما ولد منذ البداية بيئة عدائية وتوجسًا من الدروز، خاصة في طبيعة عقيدتهم الغامضة التي أخفوها عن المجتمعات المحيطة.
وتميز الدروز بتمرسهم في المعارك بسبب الحروب التي خاضوها ضد العثمانيين، إضافة إلى خبرتهم في الإنتاج الزراعي والتجارة من خلال عملهم في إنتاج وتجارة القطن والحرير في جبل لبنان قبل مجيئهم إلى جبل حوران.
ازدادت قوة الدروز وسطوتهم بعد انتصاراتهم في بعض معاركهم ضد قوات إبراهيم باشا المصرية (1836-1837)، الذي لم يستطع دخول جبل الدروز إلا بعد تسميم آبار المياه وإجبار المقاتلين على الاستسلام.
يرفض الدروز عبر تاريخهم أن تفرض عليهم مجموعة من الأمور أهمها: التجنيد الإجباري، وسحب السلاح الفردي، وفرض الضرائب، والسيطرة عليهم بقوة السلاح، وبسبب ذلك خاضوا معارك عنيفة ضد العثمانيين مستخدمين حرب العصابات خاصة تمترسهم في منطقة اللجاة الحصينة التي تقع في الشمال والشمال الغربي من جبل حوران.
وبعد محاولات كثيرة استطاع العثمانيون دخول الجبل في عدة مناسبات وبناء قلعة لهم، وسوق عدد من وجهاء العائلات إلى المشانق في دمشق عام 1911 ومن ضمن الوجهاء الذين تم إعدامهم ذوقان الأطرش (والد سلطان باشا الأطرش).
الدور القومي
غابت الهوية القومية عن جغرافيا بلاد الشام التي وقعت تحت سلطة العثمانيين مدة 400 عام، من خلال التجهيل وتجفيف منابع الوعي وكذلك الانخراط في القومية العثمانية السائدة حينها، ما أدى إلى تعزيز تواجد مكونات وقبائل وعشائر متفرقة يحكمها العُرف والتقاليد على امتداد الجغرافية السورية بشكلها الحالي. ويمكن تقسيم الدور القومي للدروز في سوريا إلى حقبتين رئيسيتين:
حقبة العثمانيين
مع مطلع القرن العشرين، بدأت الحركات التثقيفية والجمعيات الوطنية في تكثيف نشاطاتها ورسائلها التوعوية، ومع ظهور بوادر ضعف الدولة العثمانية واحتمالية وقوع مواجهات مع الدول الاستعمارية الكبرى، توجه بعض السوريين إلى فكرة تأسيس إمارة عربية تمتد من الجزيرة العربية إلى سوريا الكبرى تحت تاج “الحكم الشريفي”، ما يعكس وعيًا مبكرًا بأهمية القومية العربية رغم أنه كان ما زال ضبابيًا في ذلك الوقت.
في جبل حوران، ظهر تيار مؤيد للحكم الشريفي بزعامة سلطان باشا الأطرش، رغم وجود تيارات أخرى داخل المجتمع الدرزي كانت تابعة للحكم العثماني.
انضم سلطان باشا إلى القوات العربية وأرسل في عام 1918 وفدًا يمثل الدروز إلى وادي العقبة، حيث جرى استعراض الوفود المشاركة في الثورة تحت قيادة الشريف حسين. بعد ذلك، تم التنسيق مع قوات الأمير فيصل بن الحسين المتجهة إلى دمشق، حيث أرسل فيصل رسالة إلى سلطان باشا يقول فيها: “أخي سلطان، الملقى درعا غدًا“.
تضمنت هذه الرسالة ثلاثة أمور ذات أهمية في تطور الفكر القومي العربي، فهي تعكس تواصل قائد عربي مع زعيم محلي في منطقة درعا التي كانت تشهد بعض التوترات بين عشائرها والدروز، كما تعكس الهدف المشترك لتحرير دمشق.
كانت هذه الرسالة محفزًا لسلطان باشا لتجنيد أكثر من 500 فارس في جبل حوران، حيث قادهم في معارك عدة وصولًا إلى دمشق، ورفع العلم العربي على دار الحكومة في العاصمة.
حقبة الفرنسيين
في فترة لم تتجاوز السنتين، تم تحطيم الحلم بإقامة دولة عربية عاصمتها دمشق، حيث تخلت القوى الاستعمارية عن وعودها وفضّلت مصالحها الخاصة. في هذا السياق، تنصل الإنجليز من التزاماتهم لصالح الفرنسيين الذين قسموا جغرافيا سوريا إلى ست دويلات، كان آخرها دويلة جبل الدروز، التي بلغ عدد سكانها نحو 50 ألف نسمة. وعززت فرنسا في هذه الدويلة مفاهيم الانفصال والحكم الذاتي لدى شريحة واسعة من السكان.
بينما انحصر تأثير الدعاية الشريفية في شرقي الأردن، القريبة من دويلة جبل الدروز، ما مكّن التيار الوطني في الجبل من التواصل بحرية مع ممثلي الشريف حسين، وعلى رأسهم الأمير عبد الله ورشيد طليع، رئيس حكومة شرقي الأردن.
كان الفرنسيون قلقين من تأثير هذا التيار الوطني، كما يتضح من بعض المراسلات المحفوظة في أرشيف وزارة الدفاع الفرنسية، حيث تم التحذير من “جمعية الشباب” السرية التي ترأسها علي عبيد، والتي كانت تهدف إلى إقامة دولة عربية والتحرر من الانتداب الفرنسي (حسب أرشيف وزارة الدفاع الفرنسية – تقرير استخباراتي رقم 9 R من الصندوق GR 4 H 118).
على الرغم من تواجد تيارات درزية مؤيدة للانتداب الفرنسي، بقي التيار الوطني في جبل الدروز نشطًا ومر بالعديد من المحطات المهمة. في عام 1922، استضاف سلطان باشا الأطرش في بيته إبراهيم هنانو، قائد حركة المقاومة ضد الفرنسيين في الشمال، بعد أن أصبح هنانو هدفًا للفرنسيين، وساهم الأطرش في تأمين وصوله إلى شرقي الأردن.
كان شرقي الأردن ملاذًا للمناهضين للانتداب الفرنسي، واستقبل أيضًا سلطان الأطرش بعد مواجهته لدورية فرنسية في صيف عام 1922 دفاعًا عن اعتقال أدهم خنجر، الذي كان هاربًا بعد محاولة اغتياله للجنرال الفرنسي غورو قبل أن يتم إصدار حكم إعدام بحق خنجر (الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي- تلغرام رقم 116-117 / SP من الصندوق رقم 1SL/1/V/982).
أعلن سلطان الأطرش الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين بالتنسيق مع القوى السياسية في سوريا، وعلى رأسها حزب الشعب برئاسة عبد الرحمن الشهبندر، واستمرت الثورة بين عامي 1925 و1927، وساهمت بشكل كبير في بروز القومية العربية.
ما ميز الثورة منذ بدايتها كانت مطالب سلطان باشا الوطنية، حيث صرح لصحيفة “نيو فرييه برس” النمساوية في أغسطس/آب 1925 قائلًا: “لا أستطيع أن أكون راضيًا عن الحكم الذاتي لإقليم الدروز. أطالب مع كل شعبي بالاستقلال الكامل لكل سوريا، نريد أن يكون لدينا برلماننا الحر وجيشنا الوطني وحكومتنا الوطنية وملكنا أو رئيسنا كرئيس للدولة. يجب أن يكتفي الفرنسيون بكونهم مستشارين، مثل الإنجليز في العراق”.
على الرغم من الهزيمة التي لحقت بالثوار ونفيهم إلى الصحراء في الأردن، فإنهم أسسوا فكرًا قوميًا سوريّا تجسّد في توقيع المعاهدة الفرنسية السورية عام 1936، التي وعدت فرنسا من خلالها باستقلال سوريا وقبولها عضوًا في عصبة الأمم.
بالنسبة لدروز جبل حوران حاولت سلطات الانتداب الفرنسي إقناع السكان بأن يرفضوا الوحدة مع بقية الأراضي السورية وأن يبقوا على تنظيمهم الإداري وحكمهم الذاتي، فأوعزت لبعض الزعماء الدينيين وبعض وجهاء العائلات بأن يراسلوا المندوب السامي لمطالبته بالبقاء على حالتهم المستقلة، لكن كان للفريق الوطني في الجبل صوت أقوى، واستمد قوته من نتائج الثورة السورية الكبرى ودعم سلطان الأطرش لخيار الوحدة السورية من منفاه، فأرسلوا عشرات الرسائل التي حملت تواقيع من عدد كبير من قرى الجبل يرفضون فيها البقاء على حالتهم المستقلة ويطالبون بضمهم لسورية الموحدة.
ورغم تغذية الفكر الطائفي والمناطقي والعائلي من قوى الاحتلال والاستعمار في سوريا وخاصة في مناطق الدروز، فإن تفوق التيار الوطني على الأصوات الانفصالية كان تجربة نادرة في مجتمع لم يختبر سابقًا معنى “الهوية السورية” الحقيقية، واستطاع الدروز المساهمة بشكل لافت في تكوين شكل سوريا الجديد بعد الاستقلال وحتى اليوم.
كيف أفضت إيديولوجية البعث إلى تهميش الدروز في سوريا؟
نورس عزيز
نون بوست:11/8/2024
في الصراع على السلطة تُصبح فكرة الطائفية والأقلية محرقة للجميع.
على مدى العقود الماضية، واجه دروز سوريا تحديات كبيرة على المستويين السياسي والاجتماعي، ويمكن تقسيم هذه التحديات إلى مرحلتين رئيسيتين، المرحلة الأولى كانت بعد الاستقلال عن فرنسا، حيث شهدت سوريا سلسلة من الانقلابات العسكرية التي أثرت بشكل كبير على الاستقرار السياسي في البلاد.
أما المرحلة الثانية، بدأت بوصول حزب البعث إلى السلطة في سوريا واستلام حافظ الأسد زمام الأمور، مما أضاف أبعاداً جديدة للتحديات التي واجهها الدروز، سواء من حيث التكيف مع النظام السياسي الجديد أو المحافظة على هويتهم وثقافتهم.
الدروز وعهد الانقلابات
بعد استقلال سوريا عن الفرنسيين في 1946، ظهرت توجهات مختلفة في مجتمع الدروز السوري، منها ما هو سياسي تمثل في نمو تيارات يسارية وطنية قومية تستمد قوتها من النتائج التي حققتها الثورة السورية الكبرى في 1925، ومنها ما هو اقتصادي اجتماعي محلي تمثل في انتفاضة العامية الثانية، أو ما يُعرف بـ”صراع الشعبية والطرشان” عام 1947، وهي انتفاضة قام بها عدد كبير من عائلات الجبل المتوسطة والفقيرة ضد عائلة الأطرش الحاكمة والعائلات المساندة لها نتيجة الإقطاعات والتعامل السيئ من بعض الوجهاء وأسباب أخرى سياسية يطول شرحها، وهو ما خلف قتلى وجرحى من الطرفين.
ظهور مثل هذه الأحداث الدموية في المجتمع السوري بعد رحيل سلطات الاستعمار الفرنسي، وضعت الحكومة السورية الجديدة أمام تحدٍ كبير وفترة من عدم الاستقرار، أدت إلى الانقلابات العسكرية.
لم يكن دور الدروز السياسي كبيرًا في حكومات ما بعد الاستقلال وقبل انقلاب البعث 1963، فلم يستلموا أي حقائب وزارية سيادية، وشهدت علاقتهم مع السلطة توترًا في ظل الانقلابات العسكرية، التي لعبوا فيها دورًا بارزًا في إسقاطها. ومن أسباب زيادة التوتر هو العداء من قبل العسكريين الانقلابيين ضد جبل الدروز بعد توجيه الاتهامات لهم.
وشهدت فترة رئاسة حسني الزعيم توترًا مع الدروز، فاتهمهم بمناصرة حزب الشعب السوري والهاشميين في الأردن، وأرسل تعزيزات عسكرية إلى جبل الدروز وهدد سكانه، ما دفع بالضابط الدرزي، فضل الله أبو منصور، الذي كان على رأس كتيبة مصفحات اللواء الأول السوري والمرابط على الجبهة مع “إسرائيل” والقريب من العاصمة دمشق، بالتحرك تجاه العاصمة، وكان من الذين أسهموا في إسقاط حكم الزعيم واعتقاله في قصره بأوامر من القيادة الجديدة برئاسة سامي الحناوي.
وشارك الضابط الدرزي العقيد أمين أبو عساف في التخطيط والتنفيذ للانقلاب ضد الزعيم، قبل مشاركته إلى جانب أبو منصور لاحقًا في الانقلاب ضد الحناوي في انقلاب أديب الشيشكلي، الذي أبعدهما بعد استلامه، أسوة ببقية الضباط الذين كان يخشى عدم ولائهم.
وخلال فترة انقلاب الشيشكلي الثانية 1951، تأزمت العلاقة مع الدروز بسبب تخوفه من مؤامرة ضد حكمه في سوريا حيث كان يقول: إن “أعدائي يشبهون الأفعى، رأسها جبل الدروز ومعدتها حمص وذيلها حلب، فإذا سحقت الرأس ماتت الأفعى”، لذلك استخدم في قيادة أركانه اللواء شوكت شقير (درزي لبناني)، في خطوة فسر البعض غايتها بإبعاد شبهة الطائفية عن هجومه على الدروز، رغم اعتراض الكثير من الضباط على وجوده في القيادة.
في عام 1953، وبعد إصدار الأوامر من الشيشكلي بالدخول إلى السويداء واعتقال أبرز شخصيات عائلة الأطرش، اقتحم الجيش المنطقة بعشرة آلاف جندي مدعومين بالمدرعات، وتخلل الهجوم أعمال عنف ضد الدروز وإهانة بعض الشيوخ والنساء إلى جانب قتل واعتقال عدد من الرجالات البارزين، كما اقتحمت القوات بلدة “القريّا” بريف السويداء، وهي معقل سلطان باشا الأطرش، القائد العام للثورة السورية الكبرى، بهدف اعتقاله. لكنه اختار عدم المواجهة وغادر مع بعض رجالاته إلى الأردن.
لاحقًا، نجح مجموعة من الضباط السوريين بإيقاف عهد الشيشكلي من خلال انقلاب جديد أوقف الحكم العسكري للبلاد، وكان من بينهم العقيد الدرزي أمين أبو عساف الذي كان حينها قائد اللواء الثالث في دير الزور.
عهد البعث وانقلاب الأسد
تبنى حزب البعث في مرحلته الأولى إيديولوجيا ترتكز على تمكين المبادئ القومية محل الولاءات الطائفية والإقليمية والعشائرية. هذا التوجه لقي استحسانًا كبيرًا من بعض التيارات الوطنية داخل السويداء التي كانت تسعى لذلك، مما ساهم في نمو الحزب بشكل ملحوظ في جبل الدروز مقارنةً ببقية المناطق، كانت هذه المبادئ تجذب أبناء الأقليات للخروج من الإطار الاجتماعي الضيق والانخراط في الإطار الوطني الأوسع، ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الشعارات القومية الرفيعة، فإن حزب البعث نفسه نشأ وتطور من خلال قنوات اجتماعية تقليدية.
في 1963 استطاعت اللجنة العسكرية في حزب البعث الانقلاب على الرئيس ناظم القدسي والسيطرة على الحكم. هذا الانقلاب كان علامة تحول كاملة في مسيرة الحزب، فانتقل من مرحلة البناء الوطني إلى مرحلة تعزيز النزعات الطائفية والمناطقية والعشائرية، حيث تكونت اللجنة العسكرية من 14 عضوًا منهم 5 أعضاء من الطائفة العلوية، وهو ما شجعهم على استقطاب أشخاص يضمنون ولاءهم من خلال العلاقات العشائرية والمناطقية والعائلية.
سيطر ثلاثة ضباط علويين على قيادة اللجنة العسكرية هم: حافظ الأسد وصلاح جديد ومحمد عمران، فأخذ جديد منصب رئيس الأركان بين عامي 1963-1965 واستلم حافظ الأسد القوات الجوية السورية بينما أصبح محمد عمران قائد اللواء 70 المدرع.
مع انقلاب البعث على السلطة لم يكن هناك أي بوادر عدائية تجاه الدروز في الحزب أو في الجيش، بل على العكس، حصل الدروز لأول مرة على حقيبة وزارية سيادية بعد الاستقلال وهي وزارة الدفاع (حمد عبيد)، بالإضافة إلى منصب نائب رئيس الجمهورية (شبلي العيسمي)، ومنصب عضو في المجلس الرئاسي الخماسي (منصور الأطرش) برئاسة أمين الحافظ.
بعد انقلاب 23 فبراير/شباط 1966 الذي قاده صلاح جديد وحافظ الأسد، نشأ صراع كبير بين الدروز وسلطة البعث ما أدى إلى بروز عدة أسماء درزية كانت هي محور هذا الصراع وكانت جزءًا منه بشكل أو بآخر. ونظرًا لوجود العديد من الشخصيات العسكرية والسياسية الدرزية التي خاضت الصراع سنكتفي في هذا التقرير بذكر ثلاث شخصيات من كل جناح.
الشخصيات العسكرية
المقدم سليم حاطوم
ينحدر الضابط الدرزي سليم حاطوم من قرية ذيبين في ريف السويداء الجنوبي، وكان مسؤولًا عن كتيبة الصاعقة التي تحمي القصر الجمهوري في بداية ستينيات القرن الماضي، وانضم إلى اللجنة العسكرية السرية لحزب البعث التي استطاعت الانقلاب على الرئيس ناظم القدسي، ورغم دوره الفعال في نجاح الانقلاب، لم يحصل على أي منصب سيادي عسكري.
وتوترت العلاقة بين حاطوم وجديد بسبب اعتباره أنه المسؤول عن تهميشه وإبعاده، فاقتحم الضابط الدرزي في أبريل/نيسان 1965 منزل صلاح جديد وهدده بالمسدس ليقدم استقالته من رئاسة الأركان، وهو ما قام به جديد بالفعل، لكن الرئيس أمين الحافظ رفض تلك الاستقالة.
تزايد الخطاب الطائفي داخل القيادات القومية والقطرية في حزب البعث، مما أدى إلى تشكيل معسكر سني مقابل معسكر أقليات، وانتشرت حالة من عدم الثقة بين جميع الضباط، مما ساهم في تنفيذ انقلاب 23 فبراير/شباط 1966 بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد ضد أمين الحافظ.
ولعب الضابط حاطوم دورًا بارزًا في هذا الانقلاب، حيث اقتحم منزل أمين الحافظ، وشارك في معركة دامية مع الحرس الرئاسي، وتمكن من السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون.
بعد الانقلاب وخلال المؤتمر القطري الاستثنائي لحزب البعث 1966، تم إقصاء سليم حاطوم وإبعاده عن المناصب الحساسة من قبل صلاح جديد، إلى جانب ضباط دروز آخرين، ما دفع بحاطوم إلى التفكير في تنفيذ انقلاب مضاد، عبر التواصل مع مجموعة من الضباط الدروز وحوران، أبرزهم المقدم طلال أبو عسلي، قائد القوات العسكرية السورية على الجبهة الإسرائيلية، ومصطفى الحاج علي، قائد جهاز المخابرات العسكرية، إضافة إلى اللواء فهد الشاعر، الذي كان يقود تنظيمًا عسكريًا سريًا بالتعاون مع منيف الرزاز، الأمين العام للقيادة القومية السابقة.
حصل حاطوم على تأييد حمد عبيد، وزير الدفاع الذي تم إبعاده لصالح حافظ الأسد، ونسج علاقات مع جناح مدني في السويداء، المعروفين بجماعة الشوفيين، نسبة إلى حمود الشوفي، الأمين العام لحزب البعث الذي استقال اعتراضًا على أعمال اللجنة العسكرية.
شكل سليم حاطوم تنظيمًا عسكريًا وخطط للقيام بانقلاب مضاد، قبل اكتشاف مخططه عن طريق الصدفة خلال حفلة أقامها المقدم طلال أبو عسلي للضباط، كان من بينهم بعض الضباط المؤيدين لصلاح جديد، وشهد الحفل مشادات كلامية كشفت عن وجود التنظيم السري. على إثر ذلك، تم القبض على معظم الضباط المشاركين، ولجأ حاطوم إلى السويداء.
أُبعد أغلب الضباط الدروز عن السلطة والمراكز الحساسة في قيادة الجيش بعد انكشاف المخطط، وعين بدلًا عنهم ضباط مؤيدين للأسد وجديد أغلبهم من العلويين، ما سبب قلقًا كبيرًا داخل السويداء.
ومع تهديد قيادات الحزب في السويداء بمقاطعة الانتخابات وعدم تنفيذ أي تعليمات في حال الاستمرار بتصفية الضباط، توجه كل من الرئيس السوري نور الدين الأتاسي وصلاح جديد وجميل شيا الدرزي الوحيد الذي بقي في القيادة القطرية إلى السويداء بهدف شرح أزمة الحزب للقيادات في المحافظة.
استغل حاطوم الزيارة واعتقل الأتاسي وجديد كرهائن وبدأ بمفاوضة حافظ الأسد الذي كان وزيرًا للدفاع ورئيس الوزراء يوسف الزعيّن، وقدم مجموعة طلبات للإفراج عنهم، الأمر الذي رفضه حافظ وقيادة الجيش، وتم إرسال كتيبة الصواريخ إلى السويداء وسط التهديد باقتحام وهدم المدينة بالطيران الذي حلق فوق المحافظة.
هرب حاطوم إلى الأردن وحُكم عليه غيابيًا بالإعدام، ومع انطلاق حرب 1967 ضد “إسرائيل”، صدر عفو عام عن كل الضباط في السجون، فعاد بعد تلقي وعود بتسليمه قيادة إحدى الجبهات ضد “إسرائيل”، وحين عودته تم اعتقاله وتعذيبه وتصفيته في حقل الرماية التابع لسجن المزة العسكري من خلال محكمة ميدانية برئاسة مصطفى طلاس.
اللواء حمد عبيد
ينحدر عبيد من مدينة السويداء، والتحق بالكلية الحربية عام 1949، وسجن في 1962 بعد فشل انقلاب جاسم علوان ضد عبد الكريم النحلاوي، ليتم إطلاق سراحه بعد انقلاب البعث على السلطة في 8 مارس/آذار 1963، وعين قائدًا للحرس القومي والبادية ليشارك في قمع حراك محافظة حماة بطريقة اعتبرها البعض انتقامية، ردًا على أعمال العنف التي نفذها أديب الشيشكلي في السويداء عام 1953.
في عام 1965 تولى عبيد منصب وزير الدفاع في حكومة يوسف الزعيّن، وبعد انقلاب الأسد وجديد تم تنحيته عن منصبه بحجة عدم كفاءته في العمل، وتمت مصادرة أملاكه، الأمر الذي كان سببًا في تأييده المخطط الفاشل لسليم حاطوم، ليتم عقب ذلك إبعاده بشكل كامل عن الجيش والسلطة.
اللواء فهد الشاعر
من مواليد قرية بوسان في ريف السويداء الشرقي، التحق بالكلية العسكرية في حمص في أربعينيات القرن الماضي، واتبع دورة أركان حرب في الاتحاد السوفييتي وحصل على رتبة ركن وقائد جيوش، ربطته علاقات جيدة مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وقاد معارك على رأس لواء اليرموك ضد قوات البرزاني في شمال العراق، والتي اعتبرها البعض غير مبررة، كونها تدخل بشؤون دولة أخرى وضد المكون الكردي تحديدًا.
في بداية 1966 رُفّع الشاعر إلى رتبة لواء وأصبح نائب القائد العام لأركان الجيش، وبعد انقلاب حافظ الأسد تعاون مع منيف الرزاز في تشكيل المكتب السري المناهض للانقلاب، واشترك مع سليم حاطوم في التخطيط للانقلاب الفاشل، ما أدى إلى اعتقاله وتعذيبه وإهانته والحكم عليه بالإعدام، لكن علاقته الجيدة بجمال عبد الناصر حالت دون تنفيذ الحكم، وأفرج عنه بعد عامين من سجنه، وبقي في قريته حتى وفاته.
الشخصيات السياسية
شبلي العيسمي
من مواليد قرية متان في ريف السويداء الجنوبي، التحق بحزب البعث منذ تأسيسه وأصبح عضوًا في القيادة القطرية عام 1956، وتم انتخابه كأمين مساعد للحزب في 1964، كما تقلد خلال عمله ثلاث حقائب وزارية وهي: وزارة الزراعة ثم التربية والتعليم ولاحقًا وزارة الإرشاد الاجتماعي.
مع مطلع عام 1966 عين نائبًا للرئيس أمين الحافظ، وبعد انقلاب الأسد تم اعتقاله وسجنه، قبل أن يهرب بعدها من السجن ويتوجه في 1968 إلى العراق بعد ملاحقته أمنيًا. وشغل هناك منصب الأمين المساعد لحزب البعث العراقي قبل تقديم استقالته عام 1989.
جُرد العيسمي من الجنسية السورية مع عائلته بعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة في مطلع السبعينيات، ليتم منحه جواز سفر دبلوماسي يمني، ويستقر في الولايات المتحدة الأمريكية دون جنسية، لكن في أثناء زيارته لابنته إلى لبنان في 2011، تم اختطافه من مدينة عالية، وتحدثت العديد من المصادر عن ضلوع حزب الله اللبناني وسفير النظام السوري في اختطافه على خلفية رفضه الوقوف ضد الثورة السورية، وحتى اللحظة لم يتم الكشف عن مصيره، وسط أنباء عن وفاته تحت التعذيب داخل سجون الأسد.
له أكثر من 17 مؤلفًا في الأدب والنقد، والعديد من الدواوين الشعرية، ووصلت العديد من مؤلفاته إلى مكتبة الكونغرس الأمريكي.
منصور الأطرش
من مواليد قرية القريّا في الريف الجنوبي للسويداء، وهو ابن القائد العام للثورة السورية الكبرى، سلطان باشا الأطرش، درس العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في بيروت ودرس الحقوق في جامعة السوربون في باريس، أصبح عضوًا في المجلس التأسيسي لحزب البعث عام 1947، سُجن مرتين في عهد الشيشكلي على خلفية موقفه السياسي منه.
انتخب نائبًا في البرلمان السوري 1954-1958، وبعد انقلاب البعث عين عضوًا في “مجلس قيادة الثورة”، وتسلم بعدها وزارة العمل، قبل تعيينه 1964 عضوًا في المجلس الرئاسي الذي ضم كلًا من: صلاح البيطار ومحمد عمران ونور الدين الأتاسي ومنصور الأطرش وأمين الحافظ رئيسًا.
بعد انقلاب الأسد وجديد ومحاولة حاطوم الفاشلة، اختار منصور الأطرش لبنان كمنفى سياسي له، وبعد هدوء الأوضاع في سوريا، عاد الأطرش والتقى بحافظ الأسد مرة واحدة. من خلال ذلك اللقاء، يبدو أن الأطرش أدرك أن الدروز قد تم استبعادهم كليًا من أي منصب سياسي أو حقيبة وزارية سيادية أو أي منصب حساس في الجيش.
حمود الشوفي
من مواليد صلخد في جنوب السويداء، انتسب لصفوف حزب البعث في صغره عام 1951، وسجن مرتين الأولى في عهد الشيشكلي والثانية بسبب معارضته الانفصال عن مصر 1961، قبل انتخابه عقب انقلاب البعث أمينًا عامًا للقيادة القطرية، ليستقيل بعدها احتجاجًا على أعمال اللجنة العسكرية في الحزب.
عين سفيرًا في إندونيسيا لمدة خمس سنوات، ثم سفيرًا في الهند لمدة عامين، استدعاه حافظ الأسد عام 1971 للتعاون معه، لكنه علم بأن نظرة حافظ الأسد أمنية وليست نظرة رجل دولة.
أكد الشوفي بعد لقائه بالأسد الذي استمر 4 ساعات بأن حافظ ينظر إلى طريقة الحكم من خلال تقسيم الشعب إلى قسمين: الجادون والمشتغلون بالسياسة وهؤلاء تم بناء سجن المزة لهم، والقسم الثاني هم عامة الشعب ومطالبهم معيشية فقط ولا يمثلون خطرًا عليه.
أبقى حافظ الأسد على حمود الشوفي في دمشق ليظل تحت مراقبته وعينه مدير إدارة أمريكا في وزارة الخارجية لمدة 6 سنوات حتى العام 1978 حين أوفده كمندوب لسورية في مجلس الأمن بعد أن اطمئن له خلال السنوات التي قضاها في دمشق.
استقال الشوفي من منصبه في 27 ديسمبر/كانون الأول عام 1979 في مؤتمر صحفي مفاجئ، وأشار حينها بأن حافظ الأسد ديكتاتور قائلًا “في ظل غياب الممارسات الديمقراطية الحقيقية، تفشت ممارسات الفساد والابتزاز والرشوة دون كبح. إن حملة الأسد التي تم الإعلان عنها أخيرًا والتي حظيت بالكثير من الدعاية من أجل القضاء على الفساد في حكومته قد توقفت فور أن بدأت في توريط أصدقاء شخصيين وأقرباء في مناصب حكومية وعسكرية منتقاة من قِبله”.
أصدر بعدها حافظ الأسد حكمًا بالإعدام على حمود الشوفي وصادر أملاك زوجته، وقّع الشوفي في العام 1982 على تشكيل التحالف الوطني لتحرير سوريا الذي ضم حزب البعث ومثله شبلي العيسمي والاشتراكيون العرب والاتحاد الاشتراكي والإخوان المسلمون والجبهة الإسلامية وبعض المستقلين، وكان الهدف هو تحرير سوريا من احتلال حافظ الأسد.
ختامًا، لا شك أن أحد أهم أسباب الصراع في سوريا عمومًا هو اختلاف الانتماءات الدينية والمناطقية، وقد تعزز هذا التوجه بعد انقلاب البعث على السلطة الذي حاول صهر الانتماءات الطائفية ضمن قالب الوطنية السورية، إلا أن ما حدث بالفعل هو استغلال هذه الأيديولوجية لتدعيم التمزق والتفرق والاصطفافات في سوريا، مما أدى لاحقًا إلى نشوء مفهوم “الشللية” بإطارها الطائفي.
رغم ذلك، برزت العديد من الأسماء الوطنية من الدروز وغير الدروز الذين حاولوا البناء على الأساس الوطني. في المقابل، كانت هناك شخصيات أخرى من الدروز وغير الدروز استغلت انتماءها الطائفي وحبها للسلطة والنفوذ لزيادة الشرخ بين المكونات السورية.
3عوامل أججت خطاب الكراهية ضد دروز سوريا قبل أن يعززها الأسد
نورس عزيز
نون بوست:12/8/2024
غياب المعرفة الحقيقية حول الجماعات الإثنية تولد صورة نمطية مغلفة بالكراهية، يصعب تغييرها.
بعد الانقلابات العسكرية المتتالية على السلطة في سوريا، ظهر إلى السطح بُعد جديد لتعزيز الانقسامات في المجتمع السوري، فعززت السلطات سياسة “المكون ونقيضه”، بمعنى صراعات ثنائية بين مكونات سورية متجاورة يوجد بينها حساسيات قديمة، تحمل طابعًا دينيًا أو عشائريًا وثأريًا أو طابعًا قوميًا وعرقيًا.
نتيجة لهذه السياسة، ازداد خطاب الكراهية في نفوس مختلف المكونات السورية تجاه بعضها البعض، وأسفر عن بعض الأحداث المؤسفة بعد نجاح السلطة السياسية في تفكيك البنية الوطنية إلى حد كبير.
وأسهم غياب المعرفة الحقيقة عن الجماعات الإثنية في زيادة هذا الخطاب، الأمر الذي ولد صورة نمطية مغلفة بالكراهية يصعب تغييرها، خاصة أن سوريا تضم عددًا كبيرًا من المذاهب والطوائف الدينية والقوميات والأعراق المختلفة، في تنوع نادر بمنطقة الشرق الأوسط، تعيش فيما بينها حالة من التشكيك وعدم الثقة عززتها “الشللية الطائفية” أو “المناطقية”، التي أوجدت لها بيئة خصبة للنمو مع بعض الأنظمة السياسية المتلاحقة في سوريا بعد الاستقلال.
ونستعرض في التقرير الثالث من ملف “بني معروف”، الذي نسلط الضوء فيه على مجتمع الدروز في سوريا، بعض العوامل التي عززت من خطاب الكراهية وخلقت حساسيات تجاه طائفة الموحدين.
يعرف عن المجتمع الدرزي تمسكه بكل المناقب العربية الأصيلة، حيث يشكل الدفاع عن الأرض والعرض ركنًا مقدسًا لدى الغالبية العظمى من أبناء الطائفة، ويتسم هذا الدفاع بمبدأ عدم الاعتداء والاكتفاء بالدفاع عن النفس، وهو ما تجلى بوضوح خلال هجمات تنظيم “داعش” على قرى وبلدات ريف السويداء في 25 يوليو/تموز 2018، عندما توحدت القوى والمجموعات المحلية في السويداء لمواجهة الخطر الخارجي.
ومن السمات الأخلاقية المميزة للمجتمع الدرزي هي نصرة من يلجأ إليهم وحمايته، إذ يعتبر الضيف في العُرف الدرزي مقدسًا، ومُصانًا وله الأولوية في العُرف، فإطعامه ومساعدته وتأمينه فريضة أدبية، وكان ذلك سببًا في لجوء العديد من المطلوبين والفارين، قديمًا وحديثًا، إلى مناطق الدروز طلبًا للحماية.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، لجوء قائد الثورة ضد الفرنسيين في الشمال السوري، إبراهيم هنانو، إلى جبل الدروز قبل تأمين خروجه إلى الأردن، وكذلك قضية أدهم خنجر، الذي لجأ إلى الدروز بعد محاولة اغتياله للجنرال الفرنسي غورو، كما حاول الناشط العلوي، أيمن فارس، التوجه إلى السويداء، العام الماضي، بعد ظهوره في مقطع فيديو ينتقد بشار الأسد لكن تم اعتقاله قبل وصوله.
ورغم هذه القيم، يظل هناك بعض الشك والقلق لدى الآخرين ممن لم يتعاملوا مع الدروز أو يزوروا مناطقهم، أو سمعوا عن حوادث فردية تخالف تقاليدهم، وتعود هذه الشكوك إلى 3 عوامل أساسية:
العامل الديني
يعتبر العامل الديني أحد العوامل الأساسية التي ساهمت في انغلاق المجتمع الدرزي على نفسه، فقد واجه الدروز فتاوى تكفيرية وصفتهم بالكفار والخوارج، ما رسخ صورة سلبية عنهم في أوساط دينية مختلفة، تتبنى مبدأ “إذا لم تكن على ديني فأنت كافر”.
تعود جذور هذا العداء إلى القرن الـ11 الميلادي، عندما انفصلت “دعوة التوحيد” الدرزية عن المنظومة الدينية الفاطمية بعد خرق الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله لعادات توريث الخلافة.
أسس الحاكم بأمر الله تعاليم دينية جديدة عبر دعاته الـ5، جمعت بين مقاربات الكتب السماوية والعلوم الدنيوية والفلسفة السائدة آنذاك، ونُشرت الدعوة في بلدان عربية وآسيوية عديدة، وكان أكبر مريديها في بلاد الشام من عرب الجنوب وعرب الشمال (قيسيين ويمانيين) وهم الدروز اليوم.
خلال القرنين الـ13 و14 الميلاديين، انتشرت فتاوى تكفيرية ضد من اعتنق “دعوة التوحيد”، أبرزها فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي وصف الدروز بأنهم “زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم”، قائلًا “كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون، بل من شكّ في كفرهم فهو كافر مثلهم لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين، بل هم الكفرة الضالون، فلا يباح أكل طعامهم، وتسبى نساؤهم وتؤخذ أموالهم فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم، بل يقتلون أينما ثقفوا ويلعنون كما وصفوا، ولا يجوز استخدامهم للحراسة والبوابة والحفاظ، ويجب قتل علمائهم وصلحائهم لئلا يُضلوا غيرهم، ويحرم النوم معهم في بيوتهم ورفقتهم والمشي معهم وتشييع جنائزهم إذا علم موتها، ويحرم على ولاة أمور المسلمين إضاعة ما أمر الله من إقامة الحدود عليهم بأي شيء يراه المقيم لا المقام عليه، والله المستعان وعليه التكلان”.
ساهمت هذه الفتاوى في تعزيز حالة التوجس والكراهية ضد الدروز، ما دفعهم إلى التحصن في الجبال واتخاذ مبدأ الدفاع عن النفس كشعار لهم.
في القرن الـ15، ظهرت حركة دينية في الجبال اللبنانية بقيادة الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي، الذي سعى إلى ربط تعاليم الديانة الدرزية بالإسلام عبر بناء المساجد وإقامة خطبة الجمعة، بهدف تأصيل الديانة الدرزية القانونية الحقيقية المرتبطة بالإسلام وحماية المجتمع الدرزي.
وفي العقود الأخيرة، صدرت فتاوى من شيوخ الأزهر الشريف في عامي 1959 و1983 بعدم تكفير الدروز، كما أكد بيان مؤتمر القمة الإسلامية الاستثنائي في السعودية عام 2005 على “مكافحة التطرف المتستر بالدين والمذهب، وعدم تكفير أتباع المذاهب الإسلامية”.
ومع ذلك، استمر خطاب التكفير والكراهية في بعض الحالات بالتجسد في أفعال عنيفة. فقد تعرض دروز جبل السماق في إدلب لمذبحة عام 2015 على يد جبهة النصرة، التي أجبرتهم على تغيير معتقداتهم واتباع المنهج السلفي.
كما أظهرت مقاطع فيديو لعناصر تنظيم “داعش” خلال هجومهم على السويداء في صيف 2018 ووصفهم الدروز بأنهم “طائفة نتنة”، ما يشير إلى استغلال الكراهية الدينية من مشغلي التنظيم لتحقيق أهداف سياسية.
العامل الجغرافي
العامل الثاني يرتبط بالجغرافيا، فقد ساهم استقرار الدروز في الجبل في خلق حساسيات مع جيرانهم في سهل حوران وبعض عشائر البدو الرحل، الذين كانوا يأتون إلى الجبل في فصل الربيع لرعاية مواشيهم دون الاستقرار فيه، ما يدل على أن معظم بيوت جبل حوران كانت مهجورة ولا ينقصها سوى الأبواب، ويؤكد أن هذه الحساسيات مردها إلى الصراع على الأرض واختلاف في المذهب.
أثبت الدروز قوتهم ومقاومتهم للسلطات الحاكمة وحققوا انتصارات مهمة ضد القوات المصرية في القرن الـ19، واستطاعوا مقاومة عدة حملات عثمانية كانت تهدف إلى تجنيدهم وسحب سلاحهم وإجبارهم على دفع الضرائب، وهذا ما عزز لدى المحيط فكرة (الخارجين عن القانون والكفار الدروز).
ولعب بعض المفكرين السوريين دورًا كبيرًا في خلق كراهية ضد الدروز، منهم المفكر محمد كرد علي الذي كان نشر ضمن مجلته “المقتبس” عام 1910 مقال بعنوان “جبل الدروز وفتنهم“، حيث وصف ما أسماه “إقليمهم” بأنه “الإقليم الوحيد في سوريا بأسرها الذي أزمنت فيه الفوضى وأحب أهله عيش السلب والنهب والقتل يؤذون من خالفهم”. وقدم الكثير من الاتهامات ضد الدروز واغتصابهم لأراضي ليست لهم من دون التطرق لأدلة تؤكد هذه الاتهامات فأضاف في نفس المقال: “حتى الأطفال الرضع فكانوا يفسخونهم قطعتين”!
ساهمت الاتهامات والافتراءات التي وُجّهت إلى الدروز في تعزيز صورة سلبية عنهم في سوريا، ما أرسى مشاعر الكراهية وعدم الثقة تجاههم، لا سيما في مناطق حوران ودمشق. ومع ذلك، وبفضل الدور الوطني الذي لعبه الدروز، بما في ذلك مشاركتهم في الثورة العربية الكبرى عام 1916 وقيادتهم للثورة السورية الكبرى عام 1925، إضافةً إلى علاقاتهم التجارية الأخلاقية مع حي الميدان في دمشق، تغيرت نظرة الدمشقيين لهم. فقد تحولوا من مصدر خوف واتهامهم بالجرائم وقطع الطرق إلى أبطال في السياسة الوطنية.
العامل السياسي
في أثناء الثورة السورية الكبرى، تزايد التفاعل بين الدروز وبقية المكونات السورية، وظهرت علاقات وطنية قوية معهم، خصوصًا مع حزب الشعب بقيادة عبد الرحمن الشهبندر، ومع قادة الثورة في المناطق الشمالية والساحلية وحماة وغوطة دمشق، وعززت تصريحات سلطان باشا الأطرش هذه العلاقة الوطنية، حيث دعا إلى تحرير كامل سوريا ورفض الانقسام.
خلال فترة الانقلابات العسكرية، تدهورت العلاقات بين الدروز والسلطات السياسية، خاصة خلال ولاية الرئيس أديب الشيشكلي عام 1953، الذي أرسل قواته لاقتحام مدينة السويداء مدعيًا وجود مؤامرة ضده. ولتعزيز هذا الادعاء، اتهم الدروز بالعمالة لصالح “إسرائيل” وعرض أسلحة استولى عليها الجيش السوري من الجبهة مع “إسرائيل”، مدعيًا أنها وُجدت في جبل السويداء.
تعود تهمة العمالة لـ”إسرائيل” إلى عام 1948، عندما قرر دروز فلسطين البقاء في أراضيهم بعد ظهور الكيان الصهيوني، الذي فرض عليهم، كما على جميع العرب هناك، شروطًا مثل التجنيس والتجنيد.
في سياق تعزيز خطاب الكراهية ضد الدروز، استخدمت الأنظمة العسكرية تهمة العمالة لـ”إسرائيل” كوسيلة للتشهير. وقد استغل حافظ الأسد وصلاح جديد هذه التهمة بعد محاولة انقلاب الضابط سليم حاطوم، حيث انتقموا من الضباط والسياسيين الدروز بتوقيفهم وإبعادهم عن السلطة.
بعد حرب يونيو/حزيران 1967، نشر النظام إشاعات تفيد بأن الدروز أرشدوا الطائرات الإسرائيلية لضرب أهداف سوريّة، رغم عدم تأكيد هذه الرواية بشكل رسمي. وللحقيقة، أظهر مقطع فيديو نشره صحفي إسرائيلي في عام 2020 وجود قطع عسكرية سورية وآليات على الجبهة مع “إسرائيل” بقيت دون تحريك، ما يشير إلى وجود أوامر عليا بعدم القتال والانسحاب من الجولان والقنيطرة.
أدت الشائعات التي أطلقها النظام إلى تعزيز خطاب الكراهية ضد الدروز، حيث تحولت التهم الجديدة مثل الخيانة والعمالة إلى سلاح ضدهم، بعد أن كانت تهمة الكفر هي الأكثر شيوعًا.
يشير منصور سلطان الأطرش في كتابه “الجيل المدان” إلى أن هذه التهمة انتشرت بسرعة من جنوب البلاد إلى شمالها وصدّقها العديد من السوريين، حتى إن بعض العائلات الدرزية غادرت حي المجتهد في دمشق، وعادت عائلات أخرى إلى الجبل بعد أن أصبحت الاتهامات بالخيانة شائعة.
كما ظهرت مشكلات عديدة في حي التضامن الدمشقي، الذي يضم دروزًا وفلسطينيين. وقد وصلت تأثيرات هذه الشائعات إلى عامة الناس، حيث قام أحد العسكريين في قطنا بريف دمشق بإطلاق النار على عبد الكريم الحلبي، الذي كان يذهب للسؤال عن مصير ابنه، وعندما علم العسكري بأنه درزي، لم يتردد في قتله.
ختامًا، تعرض الدروز على مر تاريخهم الطويل لخطاب كراهية استند إلى الاختلافات المذهبية والطائفية والتوزيع الجغرافي. لاحقًا، تعزز هذا الخطاب لأغراض سياسية تهدف إلى تفكيك الروابط بين مكونات المجتمع السوري وتغييب أي دور وطني لهذه المكونات، وكانت هذه السياسة تهدف إلى تعزيز الانقسام والصراع داخل المجتمع السوري وإبقائه في حالة من التشتت والتخبط، موجهًا بحسب النزعات الدينية أو القومية أو العرقية، لضمان بقاء السلطة مركزة في يد مجموعة صغيرة ذات طابع عصبي.
المصدر: نون بوست