
تسود بين السوريين حالةٌ تخالف مزاجهم العام “التاريخي” ومواقفهم الوطنية والقومية المعروفة عنهم، والتي شكلت، في العموم، عروة وثقى ونقطة تلاقي، وإجماع، بينهم بغض النظر عن انتماءاتهم وولاءاتهم الفكرية والسياسية والطائفية والمذهبية.
الحالة هذه تتعلق في الموقف من “إسرائيل” في ظل الحديث الجاري عن موقف الإدارة الجديدة وخطواتها المنتظرة ثمنًا لوقف العدوان المتكرر على سورية، وانتهاك سيادتها وتدمير مقدراتها، إضافة لما هو مطلوب منها دوليًا في إطار إعادتها إلى المجتمع الدولي كعضو فاعل وإيجابي، بعد رفع كامل العقوبات الأممية عنها، وذلك في إطار “هندسة” الوضع الإقليمي برمته في ضوء التطورات الأخيرة المتمثلة في حرب الإبادة الدائرة على غزة والشعب الفلسطيني بالعموم، إضافة لما جرى من هزيمة نكراء لحزب الله في لبنان وتجريده من سلاحه وتحجيم دوره السياسي، وليس أخيرًا الحرب الإسرائيلية- الإيرانية والقضاء على طموحات إيران النووية، أو الحد منها.
فمنذ إعلان الرئيس أحمد الشرع في باريس، أثناء زيارته لفرنسا، عن وجود اتصالات سورية- إسرائيلية عبر طرف ثالث، وما تلا ذلك من تسريبات إسرائيلية عن لقاءات مباشرة تمت لأجل إنجاز تفاهمات استراتيجية، وحددت اسم من كان على رأس الوفد السوري، وبعد ذلك ما قيل على أنها مطالب من أجل “السلام” سربتها مصادر مقربة من الحكومة الإسرائيلية ونتنياهو شخصيًا، وأخيرًا التصريحات الأميركية بهذا الخصوص التي جاءت على لسان أكثر من مسؤول، منذ ذلك الوقت والأمور تتفاعل بين السوريين نقاشًا وصخبًا، لا يخلو لدى بعضهم غير قليل من الوقاحة والغباء… وفي كثير من الأحيان تحت زعم الوطنية والانتهاء من حقبة الأسد ومخلفاتها!
وإذا كان من غير المعقول، أو المنطقي، أن يقول، اليوم، أحد ما: إننا نريد تحرير الجولان كاملة، وعلينا استعادتها بالقوة، وعلينا إعداد العدة لذلك، والتصدي للعدوان الصهيوني المستمر، وواقع الحال كما هو معروف للجميع من افتقادنا لأدنى مقومات الردع أو “الصمود” جراء تركة الأسد الثقيلة، فإنه، وفي المقابل، من غير المقبول، بل المرفوض تمامًا، أن يذهب بعضهم بعيدًا جدًا في ترهاتهم عن الصلح و”السلام” وحسن الجوار مع “إسرائيل” ويلبسونها ثوب الوديعة والأمان، وهم غافلون عن ما تفعله في عموم المنطقة لأجل بسط سيطرتها وهيمنتها وتفوقها في مختلف المجالات، عبر الدعم الغربي منقطع النظير، في لحظة خلل تاريخي في موازين القوة، ومن جنون فائض القوة، في ظل الفراغ المرعب الذي تعيشه المنطقة منذ عقود وخلوها من أي مشروع عربي يملأ المكان ويسد الفجوات والتصدعات في جسد الأمة.
مما يؤسف له حقًا الربط الذي يقوم به بعضهم بين حقوقنا المشروعة المنصوص عليها بالقانون الدولي، والتي تدعمها القرارات الدولية، ونظام آل الأسد البائد، وخطابه، وشعاراته الكاذبة عن المقاومة والتحرير، وبعد أن انكشف دوره الوظيفي الذي أداه بأمانة وإخلاص مشهود له فيهما، وكأن المطلوب منا بعد أن تخلصنا من نظام الأسد تغيير كلِّ ما هو على تقاطع معه من تاريخ ولغة وأفكار وثقافة.!!
إن القضايا الوطنية لا تبتذل بهذا الشكل وعلينا فهم طبيعة التحديات التي تواجهنا ومعالجة مشكلاتنا بواقعية شديدة لا تنتقص من حقوقنا وسيادتنا، ولا تستهزئ بتاريخنا وتضحياتنا، ولا تسخف قيمنا وثقافتنا، وعلى هذا تحترم الشعوب وتهاب.
ربما تذهب الادارة السورية الجديدة مضطرة، أو مرغمة، في بعض الخيارات، أو المسارات، ولكن هذا لا يعني أبدًا وبسرعة أن نفقد مناعتنا الوطنية، وأن نرحب، ونهلل، للسلام الذي سيكون أكثر كلفة من أي حرب خضناها، أو كنا طرف فيها.
إننا نعتقد أنه ليس من الضرورة أن تكون خيارات الدولة ملزمة لنا كشعب سوري وأن نقبل ما هو مفروض عليها، وهذا ليس تبرير هكذا خطوة بأي حال من الأحوال، والأخطر أن نصدق أن إسرائيل تلزمها الاتفاقات والمعاهدات وننسى بنيتها ونشأتها وسلوكها عبر أكثر من 75 سنة مضت، ولنا في اتفاقات كامب ديفيد مع مصر ووادي عربة مع الأردن مثال وبرهان.
إن أي حديث عن السلام في ظل بقاء الجولان محتلة يصبح تفريطًا بالحقوق الوطنية وتنازلًا عن السيادة لا مبرر له، هذا إن لم نقل أكثر من ذلك.
أيضًا، إن أي اتفاق “إذعان” تٌرغم عليه الادارة السورية لا يلزم الشعب السوري بالتطبيع السياسي والشعبي، وإزالة كافة الحواجز مع عدو تاريخي ومغتصب للأرض ويمارس كافة صنوف وأشكال العدوان والحرب، وإسقاط كافة المحرمات الوطنية والأخلاقية والدينية.
ولعل بعضهم يقع في خلط، عن جهل أو دهاء، بين مضامين وأنواع مختلفة من الاتفاقات والمواثيق والعهود …
فلا شك أن اتفاق سلام كامل له مقتضياته، وهو غيره اتفاق على وقف العدوان بين البلدين برعاية دولية مع حفظ أمن الجانبين، أو هدنة محددة بشروط وزمان محددين، إضافة لربط أي صيغة مطروحة بوضع أراضينا المحتلة في الجولان، وكل ذلك يجب أن يتم في ظل مؤسسات شرعية ديمقراطية، منتخبة، واستفتاء شعبي تراعى فيه المصالح الوطنية والقومية، أولًا وأخيرًا.
لسنا دعاة حرب، ولكننا لن نقبل سلامًا لا يعيد الحقوق لأهلها وأصحابها، ولن نؤمن ببدع “الإبراهيمية” وغيرها.
المصدر: موقع دمشق الإخباري