
أضحى مجرّد تأكيد أن فلسطين هي القضية المركزية، بالالتزام بهذه المركزية، حديثاً ينفر منه بعض العرب، بمن فيهم مثقفون، وكأنه يعني التقليل من أهمية قضايا الحريات والتنمية والعدالة في العالم العربي. وهذا يدل على نجاح نسبي لعملية تجريف الوعي والإيهام بأن الانشغال بفلسطين يجعلها أهم من أي دولة عربية أخرى، وأن على الجميع أن يضحّي بازدهار مجتمعه من أجل تحرّر فلسطين.
هناك أسباب عديدة لتشويه الوعي في العالم العربي، لعل أهمها انحسار موجة القومية العربية، واتفاقيات “السلام” مع إسرائيل واستغلال أنظمة قومية لشعار تحرير فلسطين لكبت الحريات وإجراءات القمع والتعذيب. وفي الوقت نفسه، يجب التذكير بأن التطبيع مع إسرائيل والمعاهدات المجحفة في حق الدول العربية واستمرار المشروع الصهيوني العنصري الاحتلالي في محاولة اقتلاع شعب فلسطين من أرضه استمر بوصفه أهم عامل لعدم استقرار المنطقة، ما حدا بالدول إلى تقليص الحريات؛ إذ ترى معظم الأنظمة حركات دعم الحق الفلسطيني تهديداً لحكمها.
بداية، لم تكن فلسطين أهم بقعة في العالم العربي، فهي ليست أغلى من مصر وتونس وسورية والبحرين والصومال أو أي دولة عربية، شعب فلسطين ليسوا أهم شعب عربي، حياتهم ليست أغلى من حياة أي مواطن عربي أو من إثنية في دولنا.. ولكن سوء حظها شاء أن يقع عليها الاختيار لبناء مستعمرة مهاجرين تحت شعار “بناء وطن قومي لليهود” يحتم التطهير العرقي وتهجير سكّانها وتغيير تضاريسها ومحو هويتها، حتى إذا لزم الأمر ارتكاب حرب إبادةٍ ضد شعبها، فابتليت المنطقة بكيان مزروع لا يستطيع الاستمرار بدون الهيمنة على المنطقة، وبدون أن يقدم نفسه قاعدة متقدّمة لحماية مصالح الغرب الاستعماري، ضد أماني شعوب المنطقة ومصالحها.
صار لا بد من التذكير ببدايات مأساة الشعب الفلسطيني وبوجود كيان فُرض على شعب ووجوده واستمراره يشترط نفي تاريخ هذا الشعب ووجوده
لم آت بجديد فيما تقدم، لكن للأسف صار لا بد من التذكير ببدايات مأساة الشعب الفلسطيني وبوجود كيان فُرض على شعب ووجوده واستمراره يشترط نفي تاريخ هذا الشعب ووجوده.. وإسرائيل لا تستطيع أن ترى أي دولة عربية، حتى لو وقعت معها اتفاقيات تقبل بسيطرتها، إلا خطراً على وجودها، فالشعب الفلسطيني امتداد لشعوب المنطقة، وإسرائيل لا تريد أن تكون ولا تستطيع ان تكون جزءاً إلا إذا ضمنت تفوقها العسكري وأرهبت من حولها، وهي ترى في هوية الشعوب العربية امتداداً للهوية التي تريد القضاء عليها بل خطراً عليها، إلا إذا جرى فصل الوعي الجمعي العربي عن الالتزام بالقضية الفلسطينية واعتبارها قضيتهم المركزية.
للأسف، رأينا في العقود الماضية فصلاً متعمّداً بين القضية الفلسطينية وقضايا الشعوب العربية، وأصبحت المصالح القُطرية لكل بلد على حدة تعني الانفصال عن القضية الفلسطينية، بحجّة التركيز على المصالح الوطنية، وكأن إسرائيل لا تمثل تهديداً لأي منها.. بينما لم تتغير أولويات إسرائيل، فمفهومها لأمنها القومي يجعل توسّعها واحتلالها أراضيَ لبنانية وسورية ضرورة أمنية، فالدولة القائمة على سرقة الأراضي والهوية لا تستطيع الشعور بالأمن والتفوق بدون التوسّع وفرض شروط معاهدات تجبر الدول على مشاركتها ثرواتها ومنعها، بدعم أميركي كامل، من الاحتفاظ بسيادتها، فلا سيادة للدول المجاورة لها مع معاهدات وبدونها، فالحرب و”السلام” بالنسبة لإسرائيل وسيلتا هيمنة ليس إلا.
لا يمكن الحصول على أي اتفاقية مع إسرائيل في صالح أيٍّ من الدول العربية وشعوبها
مع هذا، لم تعد معاهدات السلام مثل التي مع الأردن ومصر كافية لها، بل تتحدّث حالياً عن توسيع هذه الاتفاقيات لجعلها مماثلة للاتفاقيات الإبراهيمية، التي كانت الإمارات أول من وقّع عليها، فاتفاقيتا كامب ديفيد ووادي عربة لم تؤدّيا إلى تطبيع أو قبول شعبي وثقافي للرواية الصهيونية التي تحتم رفض تاريخ فلسطين وحقوق شعبها، لذا نرى أميركا الآن تدفع مصر والأردن إلى تعميق التطبيع ونزع فكرة الالتزام بالقضية الفلسطينية من الثقافة والوعي الشعبي، ولو بالقوة، مثل التوقيفات الأمنية ومنع المسيرات في الأردن، والقمع العنيف وإبعاد النشطاء العرب الذي شاركوا في قافلة كسر الحصار على غزّة في مصر.
لم أذكر اتفاقيات أوسلو لأنها ليست معاهدة سلام دائمة، لكنها مثال صارخ على الخديعة، إن بخرق إسرائيل بنودها أو تحويل ما كان يجب أن يكون فترة انتقالية إلى حل دائم فيما تستمر إسرائيل في مجازرها ومصادرتها الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات غير المشروعة، وتهجير الشعب الفلسطيني من أجل تحقيق المشروع الصهيوني. ويدلّ تعامل إسرائيل مع اتفاقيات أوسلو، المختلة لصالح إسرائيل أصلاً، على أن لا اتفاقية توقف المشروع الصهيوني، بل إنها، وهي مدانة أصلاً، تخدم غطاءً لاستمرار الاحتلال وتصعيده وتزيد من توحش الجيش الصهيوني، كما نشاهد من فظائع حرب الإبادة في غزّة.
لا يمكن الحصول على أي اتفاقية مع إسرائيل في صالح أيٍّ من الدول العربية وشعوبها، الهيمنة التي ينشط الرئيس الأميركي ترامب في تحقيقها لإسرائيل في المنطقة وبشكل نهائي، مستغلّاً إضعاف حزب الله وحركة حماس، وزج إسرائيل أي مناضل، بغض النظر عن انتمائه، في المعتقل، فالغرض فرض نظام أمني في المنطقة ضمن الهيمنة الكاملة لإسرائيل، وحالياً تجد إسرائيل الفرصة لفرض احتلالها من خلال التوسّع العسكري وفرض اتفاقيات على سورية ولبنان، تقبلان بموجبها بالتخلي عن أراضيهما المحتلة سابقاً أو حديثاً تحت عنوان تحقيق “السلام”.
وعليه، على سورية أن تستفيد من الدروس ولا تنجر إلى اتفاقيات أمنية جديدة تحمل بنودها قبولاً ضمنياً بسيطرة إسرائيل.
الالتزام بعدالة القضية الفلسطينية التزام بالأمن القومي لكل دولة على حدة، ومن ثم بالأمن القومي العربي
الوعي بمركزية القضية الفلسطينية هو الوعي بأبعاد المشروع الصهيوني، وبأن الالتزام بعدالة القضية الفلسطينية هو التزام بالأمن القومي لكل دولة على حدة، ومن ثم بالأمن القومي العربي، فالحفاظ على الأمن الاستراتيجي للأردن مثلاً يخدم الحفاظ على أمن سورية والعكس صحيح، إلا إذا كانت الدول العربية لا تريد أن تعترف بأن إسرائيل تمثل خطراً وجودياً عليها، فإسرائيل لن تعتبر يوماً أي دولة عربية، مهما قدّمت من تنازلات، دولة ذات سيادة متساوية في الحقوق، ولا تهمّها “أي حدود”، فإسرائيل ليس لها حدود، والأخطر أن الإدارة الأميركية بدأت تقتنع بذلك. ولنتذكّر ما قاله الرئيس ترامب إبّان حملته الانتخابية إن مساحة إسرائيل على الخريطة صغيرة وعن تفكيره الدائم بدعم توسيع رقعتها.
وفي تقرير لموقع “ذا هيل” في 10مايو/ أيار الماضي، قال مسؤول أميركي، لم يفصح عن هويته، إن الحدود في الشرق الأوسط “متخيّلة”، وليست دائمة، في إشارة إلى الحلول الممكن الاتفاق عليها بشأن هضبة الجولان السورية المحتلة فيما يدلّ أن سورية تواجه ضغطاً للتخلي عن الجولان، وهو متوقّع.
وهذه رسالة إلى دمشق بأن واشنطن لن تعارض إسرائيل حتى في الاحتفاظ بأي أراض سورية قد يتوغل فيها الجيش الإسرائيلي.
ليس مطلوباً من الدول العربية قتال إسرائيل، لكن إغفال مركزية القضية الفلسطينية، ومن ثم أهداف الصهيونية، هو تنازل عن الأمن السيادي وحقوق الشعوب، فمتى تستيقظون؟
المصدر: العربي الجديد