لأول مرة منذ العام 2015، تحوز احتجاجات السويداء في الجنوب السوري هذا الزخم الزمني والبشري، ما جعلها تبدو تحدياً غير مسبوق للنظام السوري، ذلك أن معارضة الأقلية الدرزية التي شكلت، وفق بعض المصادر، 3% من مجموع السوريين قبل العام 2011، تمثّل انقلاباً على تكتيكات النظام في قمع انتفاضة السوريين طوال أكثر من 12 عاماً، حمل خلالها خطاب “تخويف” موجّه للأقليات، مفاده: أن “خطراً وجودياً قد يحدق بها في حال خسر النظام السلطة”.
حفاظاً على ورقة “حماية الأقليات”، وعبر “دبلوماسية الاحتواء”، حذراً يتعامل النظام مع حراك المحافظة. على النقيض من ذلك، قمع النظام انتفاضات مدن سورية في طول البلاد وعرضها منذ العام 2011، ولم يتردد اليوم في إطلاق قبضته الأمنية في احتجاجات تزامنت مع الحراك الأخير في السويداء، من ذلك أن عناصر أمن النظام أطلقت النار على متظاهرين في محافظتي درعا وحلب، وانتشرت في حمص بعد أنباء عن تظاهرة سوف تخرج من أحد مساجد المدينة. كما اعتقلت ناشطين علويين ارتفعت أصواتهم ضد رأس النظام، كان بعضهم من أشد الموالين له.
ورغم جهود النظام المكثّفة لإقناع متظاهري المحافظة بوقف الاحتجاجات، يبدو أن الخيار الأمني لا يزال مطروحاً على طاولة النظام في حال تعذرت مساعيه الدبلوماسية، وكان إطلاق “كتائب البعث” النار على متظاهرين، أمام واحد من مقار “حزب البعث” في المحافظة، إشارة واضحة إلى ما في جعبة النظام من حلول أمنية.
تحررت السويداء جزئياً من قبضة النظام وأجهزته، ويدفع فعلها الاحتجاجي نحو المزيد من ذلك. وفي مواجهة إشاعات يروجّها النظام تصف حراكهم بــ”الانفصالي”، يؤكد المحتجون أنهم جزء من هذا الكل السوري.
ومع دخول الاحتجاجات شهرها الثاني، تفرض تساؤلات الربح والخسارة نفسها على المشهد السوري، لا سيما في مواجهة نظام لم يتردد في قمع انتفاضات السوريين السلمية، قبل المسلحة، بالحديد والنار، وبقي من دون مساءلة أو محاسبة. فإلى أين يتجه الحراك؟ وهل تسقط المحافظة ورقة “حماية الأقليات” من يد الأسد ونظامه، وما هي سبل تحول الحراك إلى “ثورة الكل السوري”؟
أقليات دينية أم سياسية؟
عبر تاريخ حكمه، وظّف نظام البعث في سورية ورقة “حماية الأقليات” لإحكام قبضته على الشارع السوري، ما مهد لأن تسلك أقليات عرقية وإثنية سلوك جماعات سياسية، فبدت المواطنة نوعاً من محاصصة على الدولة. وبلغ ذلك ذروته إبان ثورة السوريين العام 2011 وتطوراتها اللاحقة.
الطبيب والكاتب السوري راتب شعبو يقول، لـ”العربي الجديد”، إنه “في الصراع السوري الدائر من أكثر من عقد، شهدنا مستوىً عالياً من التطابق بين الجماعة المذهبية والموقف السياسي، وهو ما يوحي بتحول الأقليات الدينية إلى أقليات سياسية. لكن هذه لحظة سياسية عابرة، كما نرجو، ما لم تتكرس بأحزاب وتشكيلات سياسية طائفية على الشاكلة اللبنانية”.
ويسلط شعبو الضوء على أحد أسباب نجاح النظام في توظيف ورقة “حماية الأقليات”، فيرى أن “صعود حركات الإسلام السياسي، بأنواعها، في تصوراتها غير الوطنية، أعطت النظام سلاح (حماية الأقليات)، وغذت لدى الأقليات وهماً بأن النظام يحميها، وهو ما دفع الأقليات إلى (حماية) النظام. هذه حلقة شريرة في تاريخ سورية المعاصر”، مبيناً أن هذه الورقة تسقط من يد النظام “حين تتبلور في المجال السياسي السوري قوة وطنية قادرة على تهميش فاعلية الإسلاميين السوريين”.
سقط وهم “حماية الأقليات” في السويداء “في عام 2018 مع هجوم تنظيم داعش وارتكابه المجازر ضد قرى الريف الشرقي في محافظة السويداء، كما أن الدولة (الحامية) من خلال أجهزتها، كالشرطة والجيش، تخلت عن كل مسؤولياتها خلال السنوات الخمس الأخيرة، وتركت الناس فريسة عصابات القتل والخطف وتجار المخدرات”، وفق ما تراه الكاتبة والناشطة النسوية، والمعتقلة السابقة في سجون النظام، وجدان ناصيف.
وفي حديثها لـ”العربي الجديد”، توضح ناصيف، ابنة السويداء والمقيمة في فرنسا، أنه “من المبكر القول إن النظام أسقط من يده ورقة (حماية الأقليات)، وهي ورقة يرفعها في وجه الغرب الذي يقدم نفسه حامياً للأقليات، وحتى اليوم لم نشهد ردة فعل واضحة لهذا الغرب. لكن يمكن القول إن الأقلية الدرزية في سورية أسقطت النظام في ساحات السويداء، ما يعني أنهم هم الذين تخلوا عن (حمايته) بعد أن أيقنوا أن حمايته لهم مجرد وهم”.
رئيس التجمع الوطني الشعبي المدني في سورية وأمين سر المنظمة العربية لحقوق الإنسان عثمان العيسمي يؤكد من السويداء، لـ”العربي الجديد”، “قضية المواطنة” بوصفها “الركيزة الأساسية في بناء الدولة القوية”، لكن النظام، على النقيض من ذلك، “حاول الاستفادة من ورقة (حماية الأقليات)، وتحويلها من أقليات عرقية ودينية إلى أقليات سياسية تخدم مصالحه فقط، من دون النظر إلى قضية المواطنة الكاملة”.
واعتبر العيسمي أن “ما جرى في السويداء هو نتيجة ارتفاع الشعور الجمعي والوعي الجماهيري إلى أقصى الحدود بفقدان تلك المواطنة، ومقومات بناء الدولة السورية ككل، وعلى مستوى الوطن؛ سورية، وليس ناتجاً عن تفكير بالانفصال عن الدولة السورية كما تدعي أبواق السلطة”.
خطاب عابر للطوائف
تاريخيا، يبدو “جبل العرب” (محافظة السويداء) واقعاً في تناقض، وصفه البعض بـ”التكويني”، فرغم حضوره في قلب الأحداث السورية المركزية بردود أفعال عابرة للطوائف، حافظ في الوقت نفسه على استقلاليته وخصوصيته، وهو أشد ارتباطاً بتراثه المحلي. عززت ذلك محطات من عدم ثقة متبادلة مع الحكومات المركزية التي سيطرت في دمشق.
اليوم، يبرز سؤال حول قدرة الجبل على تشكيل خطاب مركزي عابر للطوائف، في وقت تبدو فيه الوطنية السورية منهكة، لا سيما بعد أكثر من عقد على قبضة أمنية دموية، وتحول السلطة طرفاً في حرب أهلية.
يجد العيسمي في احتجاجات السويداء إمكانية لـ”إطلاق خطاب مركزي عابر للطوائف”. ظهر ذلك، برأيه، “من الشعارات المرفوعة خلال الحراك الشعبي، ومن خلال بيانات وتصريحات القوى الوطنية، ومن خلال الرئاسة الروحية والهيئة الدينية، وقادة الحراك الشعبي، والتي وحدتها المطالبة بتطبيق القرارات الأممية، خاصة القرار الدولي 2254… واعتبار القرار المذكور بداية للحل السياسي الشامل في سورية”.
وينص القرار 2254 الذي يرفعه المحتجون في السويداء على “دعم عملية سياسية بإشراف أممي”، من أجل إنشاء “حكم ذي مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية”.
من جهته، يذهب راتب شعبو إلى أن “المبادئ التي تقوم عليها انتفاضة السويداء هي مبادئ وطنية قابلة لأن تكون ركيزة خطاب سوري عابر للطوائف”. لكنه يستدرك: “السويداء وحدها لا تستطيع حمل هذه الركيزة”، حتى مع افتراض “تضامن كل الأقليات وتوحدها على هذه المبادئ، ولا سيما في ظل انعدام الثقة العميق مع المتن الأساسي للجماعة الوطنية السورية، أقصد المسلمين السنة”.
ويعلل ذلك بأن “الظروف التي قادت إلى احتلال التيارات الإسلامية موقع الصدارة والسلطة على الضفة المواجهة لنظام الأسد أضعفت الوطنية السورية، التي يصعب أن نتخيل صعودها ما لم تنهض بها البيئة الاجتماعية نفسها التي تسيطر عليها اليوم التيارات الإسلامية. لا يبدو أن المستقبل القريب يحمل مثل هذا النهوض”.
أما وجدان ناصيف، فتعتقد أن “الانقسام أصبح واقعاً إداريا وجغرافياً، من خلال اقتسام سورية بين قوى سيطرة أمر واقع تتبع أجندات خارجية (لا وطنية)… لا يستطيع أي تكوين سوري، منطقة أو طائفة أو تشكيل أو أي كان، أن يشكل اليوم منفرداً خطاباً مركزياً عابراً للمناطق وللطوائف”، مؤكدة أن إعادة تشكيل “سورية الوطن” هي “عملية تشاركية بين الجميع، تبدأ بالانتقال السياسي الذي يجب أن يكون خطوة باتجاه إنهاء عهد الاستبداد”.
وتضيف: “الخطاب العاطفي حول أهمية استعادة الوطن من قبل السوريات والسوريين لا يوصلنا إلا إلى الندب والبكاء، على الأقل هو غير كاف… المهم أن يصل الجميع إلى قناعة بأن التقسيم الحالي وحالة (الاستنقاع) لا يمكن البناء عليها، وليست فيها مصلحة لأحد، وتشكيل خطاب وطني عابر للطوائف يمكن أن تبادر به فئة أو طائفة بعينها، لكن لا يمكن أن يخرج من حالة الخطاب إلى حالة الفعل، إلا بإجماع كل السوريين والسوريات على مصالحهم المشتركة، وأهمها مصالحهم الاقتصادية”.
ثورة الكلّ السوري
مع اكتساب حراك السويداء زخماً متصاعداً، يجرى الحديث عن مساع لتشكيل هيئة سياسية مدنية في المحافظة، على أن ينبثق عنها مؤتمر سياسي، يعقد في السويداء، يقدم للمجتمع الدولي رؤية سياسية لمستقبل سورية، وإعادة بناء الدولة.
فاعلية الهيكل التمثيلي يراها راتب شعبو “تتوقف بالدرجة الأولى على وزن ما يمثله على الأرض”، منبها إلى أن “اقتصار الحركة على السويداء يقلل من أهمية الهيئة السياسية التي يمكن، وينبغي، أن تتشكل على أن تكون ذات بعد سوري”.
ويؤكد أن “الحراك في السويداء يستحق كل التقدير وكل الدعم”، لكن المشكلة في نظره هي “في انكفاء الشارع السوري عن التضامن المباشر مع السويداء كما كان الحال في 2011 مع درعا”.
يراهن النظام على عامل الوقت والمماطلة لإنهاك الحراك وشقّ الصف، وتتبلور أكثر فأكثر لدى السوريين قناعة مفادها: إن لم تسفر احتجاجات السويداء عن برنامج بإجماع وطني، فلن تمثل تحدياً جدّياً للنظام، ولن تكون ثورة لكل السوريين. يجادل آخرون بأن التضامن مع السويداء وعدم تركها وحيدة في مواجهة النظام هما أقصر الطرق، إن لم يكن أسهلها، لخلق إجماع سياسي.
المصدر: العربي الجديد