العدالة بعد الثورة.. لماذا نحتاج إلى محكمة وطنية في سوريا؟

أحمد زكريا

بعد سقوط نظام الأسد وانتصار الثورة السورية، يواجه الشعب السوري تحديات هائلة في إعادة بناء دولة تحكمها القوانين وتسودها العدالة.

لقد خلّفت سنوات الصراع الطويلة، منذ اندلاع الثورة عام 2011، جروحاً عميقة في النسيج الاجتماعي السوري، مع ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تركت مئات الآلاف من الضحايا والمفقودين قسراً.

في هذا السياق، تبرز الحاجة الملحة لإنشاء محكمة وطنية خاصة تهدف إلى محاكمة مرتكبي هذه الجرائم، ليس فقط لتحقيق العدالة، بل لإعادة بناء الثقة في المؤسسات وترسيخ مبدأ السلم الأهلي.

إن إقامة محكمة وطنية ليست مجرد آلية قضائية، بل هي خطوة أساسية ضمن مسار العدالة الانتقالية الذي يسعى إلى معالجة إرث العنف والانقسامات، وإحقاق حقوق الضحايا، ومنع تكرار الانتهاكات، وفي هذا السياق، تستلهم هذه المقالة تجارب دول أخرى، وتستعرض أهمية المحكمة الوطنية، وآليات إنشائها، ودورها في بناء سوريا الجديدة.

تهدف المحكمة الوطنية إلى تحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية التي تتجاوز مجرد المساءلة القضائية:

تحقيق العدالة وإحقاق حقوق الضحايا: توفير منصة قضائية عادلة وشفافة تمكّن الضحايا من رؤية مرتكبي الجرائم في قفص الاتهام، مع ضمان محاكمات علنية تلبي المعايير الدولية.

إعادة بناء النسيج الاجتماعي: من خلال محاكمات عادلة، تسهم المحكمة في تجاوز الانقسامات الاجتماعية والطائفية التي غذّاها النظام السابق، وتمنع الانتقام أو العدالة الذاتية.

ترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب: إن مساءلة مرتكبي الجرائم الكبرى، سواء كانوا من النظام السابق أو غيرهم، هي رسالة واضحة بأن الجرائم ضد الإنسانية لن تمر من دون عقاب.

بناء الثقة في المؤسسات الجديدة: من خلال إظهار استقلالية القضاء وحياديته، تسهم المحكمة في تعزيز ثقة الشعب السوري بالدولة الجديدة.

التوثيق التاريخي: توفر المحاكمات سجلاً رسمياً للانتهاكات، مما يساعد في حفظ الذاكرة الجماعية ومنع تكرار الجرائم في المستقبل.

إن إنشاء محكمة وطنية يتطلب تخطيطاً دقيقاً يضمن استقلاليتها ومصداقيتها. فيما يلي الخطوات الرئيسية لتأسيسها:

قرار من السلطة الانتقالية: يجب أن تصدر السلطة الانتقالية قراراً رسمياً بإنشاء المحكمة، مع وضع إطار قانوني واضح يحدد اختصاصاتها وهيكليتها.

سن قانون خاص: ينبغي صياغة قانون ينظم عمل المحكمة، يتضمن تعريف الجرائم المشمولة (مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية)، ويحدد إجراءات المحاكمة، وحماية الشهود، ومشاركة الضحايا.

تشكيل المحكمة: يجب أن تتألف المحكمة من قضاة سوريين يتمتعون بالنزاهة والكفاءة، يتم اختيارهم عبر آليات شفافة وتنافسية، ويمكن أيضاً الاستعانة بخبراء دوليين لتقديم الدعم الفني والتدريب، مع الحفاظ على الطابع الوطني للمحكمة.

ضمان الاستقلالية: يجب أن تكون المحكمة مستقلة تماماً عن السلطة التنفيذية أو أي تأثيرات سياسية، لضمان نزاهة أحكامها ومصداقيتها.

حماية الشهود والضحايا: ينبغي وضع برامج لحماية الشهود والضحايا، بما في ذلك حماية هوياتهم وتوفير بيئة آمنة للإدلاء بشهاداتهم، ويمكن لسوريا الاستفادة من تجارب دول أخرى مرت بمراحل انتقالية مشابهة، على سبيل المثال:

سيراليون: أنشأت سيراليون محكمة خاصة لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب خلال الحرب الأهلية (1991-2002)، وتميزت هذه المحكمة بمزيج من القضاة المحليين والدوليين، مما عزز مصداقيتها وسمح بتطبيق معايير دولية مع الحفاظ على الطابع الوطني.

كمبوديا: شهدت كمبوديا إنشاء غرف استثنائية في المحاكم الوطنية لمحاكمة قادة الخمير الحمر المسؤولين عن الإبادة الجماعية، إذ أسهمت هذه التجربة في إعادة بناء الثقة في النظام القضائي.

غواتيمالا: نجحت جمعيات المجتمع المدني في غواتيمالا في محاكمة الديكتاتور خوسيه إفراين ريوس مونت بتهمة الإبادة الجماعية ضد سكان المايا الأصليين، مما يبرز دور المجتمع المدني في دعم العدالة الانتقالية.

هذه التجارب تظهر أن الجمع بين الطابع الوطني والدعم الدولي يمكن أن يعزز فعالية المحاكم الخاصة ومصداقيتها، مع الحفاظ على السيادة الوطنية.

تشكل المحكمة الوطنية جزءاً من مسار أوسع للعدالة الانتقالية، يتضمن عدة مكونات مترابطة:

هيئة الحقيقة والمصالحة: تهدف إلى توثيق الانتهاكات، وتمكين الضحايا من سرد قصصهم، وتعزيز المصالحة الوطنية.

برامج جبر الضرر: تشمل تعويضات مادية ومعنوية للضحايا، مثل إعادة تأهيل المعتقلين والمفقودين قسرياً، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي.

إصلاح المؤسسات: يتطلب إصلاح القضاء وأجهزة الأمن لضمان عدم تكرار الانتهاكات، من خلال وضع معايير مهنية وتدريب الكوادر.

تشريعات وطنية: يجب أن تتضمن النصوص الدستورية والقوانين الوطنية أحكاماً تجرّم الجرائم الكبرى، مع التأكيد على مبادئ مثل عدم سقوط الجرائم بالتقادم، ومنع العفو عن مرتكبي الجرائم الجسيمة، ورفع الحصانات عنهم.

يستند إنشاء المحكمة الوطنية إلى مبادئ القانون الدولي، التي تؤكد أن الاختصاص الأساسي في محاكمة الجرائم الكبرى (مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية) يقع على عاتق القضاء الوطني، ومع ذلك، يمكن اللجوء إلى المحاكم الدولية أو الوطنية الأجنبية في حالات استثنائية، مثل عجز القضاء الوطني عن النظر في هذه القضايا بسبب انهيار النظام القضائي أو غياب الاستقلالية.

في حالة سوريا، التي لم توقّع على معاهدة روما ولم تنضم إلى المحكمة الجنائية الدولية، تصبح المحاكم الوطنية خط الدفاع الأول لتحقيق العدالة، إذ يجب أن تتضمن التشريعات الوطنية أحكاماً واضحة تتوافق مع المعايير الدولية، مثل: تجريم الجرائم الكبرى وفق التعريفات الواردة في القانون الدولي، ضمان عدم سقوط هذه الجرائم بالتقادم، منع إصدار أوامر عفو عن مرتكبي الجرائم الجسيمة، رفع الحصانات عن المسؤولين المتورطين في الجرائم.

إن إنشاء محكمة وطنية في سوريا ليس مجرد ضرورة قضائية، بل هو ركيزة أساسية لبناء دولة القانون والسلم الأهلي. من خلال محاكمات عادلة وشفافة، يمكن للمحكمة أن تمنح الضحايا حقوقهم، وتعيد الاعتبار لهم، وتمنع تكرار الجرائم.

تواجه سوريا تحديات كبيرة في إنشاء محكمة وطنية، منها ضعف البنية التحتية القضائية، ونقص الكوادر المؤهلة، والانقسامات الاجتماعية.

وللتغلب على هذه التحديات، يوصى بما يلي:

إصلاح القضاء والأمن: يجب أن تعمل الحكومة الانتقالية على إصلاح المؤسسات القضائية والأمنية كخطوة أولية، لضمان نزاهة المحكمة واستقلاليتها.

إشراك المجتمع المدني: يمكن للجمعيات المدنية السورية أن تلعب دوراً محورياً في توثيق الانتهاكات، ودعم الضحايا، والضغط من أجل محاكمات عادلة.

الاستفادة من الدعم الدولي: يمكن الاستعانة بخبراء دوليين لتدريب القضاة وصياغة التشريعات، مع الحفاظ على السيادة الوطنية.

ضمان الشفافية: يجب أن تكون المحاكمات علنية، مع توفير تغطية إعلامية مستقلة، لتعزيز ثقة الجمهور في العملية القضائية.

معالجة قضية العقوبات: في حين ترفض المحكمة الجنائية الدولية عقوبة الإعدام، فإن تطبيق القصاص العادل المنصوص عليه في القرآن الكريم قد يكون مطلباً شعبياً في سوريا، وينبغي للسلطة الانتقالية دراسة هذا الأمر بعناية لتحقيق التوازن بين المطالب الشعبية والمعايير الدولية.

إن إنشاء محكمة وطنية في سوريا ليس مجرد ضرورة قضائية، بل هو ركيزة أساسية لبناء دولة القانون والسلم الأهلي. من خلال محاكمات عادلة وشفافة، يمكن للمحكمة أن تمنح الضحايا حقوقهم، وتعيد الاعتبار لهم، وتمنع تكرار الجرائم.

إن نجاح هذه المحكمة يعتمد على استقلاليتها، ونزاهة قضاتها، ودعم المجتمع المدني والدولي. في نهاية المطاف، فإن تحقيق العدالة الانتقالية هو الطريق الوحيد لضمان أن تكون سوريا الجديدة دولة تحترم كرامة مواطنيها وتحمي حقوقهم، بعيداً عن إرث العنف والظلم.

العدالة ليست فقط محاكمة الجناة، بل هي أيضاً عملية إعادة بناء العلاقات الاجتماعية التي تهالكت بسبب العنف والظلم. هنا تلعب المحكمة الوطنية دوراً مهماً في كشف الحقيقة وإعادة الكرامة للضحايا ومنع الإفلات من العقاب، أي أن للمحكمة الوطنية دور في إعادة الإعمار المجتمعي.

إن إنشاء محكمة وطنية في سوريا بعد الثورة ليس مجرد خيار قانوني، بل هو خطوة استراتيجية ووطنية تهدف إلى استعادة الحق العام، وإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والمساواة، ومن دون محاسبة واضحة وعادلة، ستبقى الجراح مفتوحة، وسيبقى المجتمع السوري معرضاً للانقسامات والصراعات المستمرة.

ولذلك، فإن المطالبة بمحكمة وطنية تختص بمحاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الانتهاكات الجسيمة، لا تتعارض مع مشروعية الثورة ولا مع مصلحة الوطن، بل هي جزء لا يتجزأ منه، وهي ضمانة لمستقبل لا يعيد إنتاج الظلم والاستبداد.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى