أصبح واضحاً للعيان أن مصر أصبحت في موقف لا تحسد عليه، جغرافياً واقتصادياً بالدرجة الأولى، بفعل فاعل، من الخارج والداخل في آن واحد، بعد أن حاصرتها النزاعات المسلحة في دول الجوار، والديون المثخنة بأطماع خارجية في الشراء والاستحواذ، في الوقت الذي لا تظهر في الأفق أية بوادر للخروج من ذلك النفق المظلم، مع تفاقم أوضاع النزاعات والصراعات الخارجية من جهة، واشتداد الأزمة الاقتصادية والمالية من جهة أخرى، ما يجعل الباب مفتوحاً في المستقبل القريب أمام كل الاحتمالات. في البداية تجدر الإشارة إلى مجموعة من التحديات الخارجية، التي وضعت مصر في موقف لا تحسد عليه، وتتمثل في الآتي:
أولاً: الأزمة السياسية الجارية على الحدود الغربية، وتحديداً في ليبيا، منذ الإطاحة بالعقيد معمر القذافي عام 2011، وأثر ذلك على الأمن القومي المصري، خصوصاً بعد انحياز النظام في مصر في الصراع المسلح هناك، إلى اللواء خليفة حفتر في الشرق الليبي، في مواجهة السلطة الرسمية بالعاصمة طرابلس، وداعميها الدوليين، وفي مقدمتهم الجمهورية التركية، وما نتج عن ذلك من توترات، وتدخل عسكري في بعض الأحيان.
ثانياً: الأزمة السياسية المسلحة على الحدود الجنوبية، وتحديداً في السودان، وما نتج عن ذلك من احتجاز قوات الدعم السريع هناك لقوات مصرية في قاعدة مروى العسكرية، تم الإفراج عنهم بوساطة خارجية، وأثر ذلك على الدور المصري المتراجع في السودان بشكل عام، في الوقت الذي دخلت فيه على الخط قوى افريقية وعربية تؤجج الصراع، لأسباب متعددة، من بينها تصدير الأزمات لمصر حالياً وفي المستقبل القريب.
ثالثاً: أزمة الحدود الشمالية، المتعلقة بترسيم الحدود البحرية في البحر الأبيض المتوسط، التي تضم كلاً من مصر وتركيا واليونان وقبرص وإسرائيل، وفلسطين (غزة)، وهي الأزمة التي تستمد أهميتها من وجود عدد كبير من آبار الغاز على امتداد المياه الإقليمية لهذه الدول، في وجود أكثر من ترسيم حدودي، ما ينذر بتفاقم الأزمة بين لحظة وأخرى، مع اكتشاف المزيد من الآبار، في الوقت الذي تجاهلت فيه الاتفاقيات الموقعة بين كل الأطراف، الحقوق الفلسطينية في هذا الشأن.
رابعاً: أزمة الحدود الشرقية مع الكيان الصهيوني، التي لم تكن أبداً مستقرة منذ إنشاء هذا الكيان، حتى بعد مرور 44 عاماً على توقيع اتفاقية سلام بين الطرفين، وتظهر هشاشة تلك الاتفاقية بين الحين والآخر، خصوصاً مع المواجهات الجارية حالياً في قطاع غزة، حيث التهديدات المستمرة بترحيل سكان القطاع إلى مصر قسراً، ما يجعل الجيش المصري في حالة استنفار دائم وتلويح بالمواجهة إذا استدعى الأمر ذلك.
خامساً: رغم توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بالبحر الأحمر مع المملكة العربية السعودية، التي أفضت إلى تسليم جزيرتي تيران وصنافير إلى المملكة، إلا أن أحكاماً قضائية مصرية نهائية، صدرت من مجلس الدولة بشقيه (القضاء الإداري والإدارية العليا) تؤكد مصرية الجزيرتين، تجعل من الأزمة مثار جدل شعبي ونخبوي طوال الوقت، ما يحتم النبش فيها من جديد مع نهاية النظام الحالي في مصر.
سادساً: إنشاء سد النهضة الإثيوبي على منابع النيل، دون ضمانات ودون إقرار إثيوبي بحصة مصر من المياه، المنصوص عليها في اتفاقيات سابقة، منذ بداية القرن الماضي، هو بمثابة خطر وجودي على مصر وشعبها، ينذر بضرورة التحرك العسكري، في حالة ما إذا بدا تأثير ذلك واضحا على الحياة الزراعية بشكل خاص، مع دخول عمليات ملء السد مراحل جديدة، ومزيد من التعلية، لاستيعاب الكم المعلن، وهو 73 مليار متر مكعب.
سابعاً: مخططات استحداث الطرق البحرية والبرية البديلة لقناة السويس، ومن بينها قناة بن غوريون في إسرائيل، وطريق الهند- الإمارات- السعودية- الأردن- إسرائيل، وخطوط أنابيب النفط الخليجية باتجاه مينائي إيلات وحيفا أيضا، (مع ملاحظة أن دول الخليج وإسرائيل عامل مشترك في الجميع).
وإذا أضفنا إلى التحديات الخارجية، أخرى داخلية عديدة، في مقدمتها تردي الوضع الاقتصادي، فإننا أمام حالة من التطويق على قدر كبير من الخطورة، ساهم في تفاقمها هروب نسبة كبيرة من رؤوس أموال رجال الأعمال إلى الخارج، سواء للاكتناز أو للاستثمار، إضافة إلى اكتناز المواطنين عموماً نسبة كبيرة أيضاً بالداخل، نتيجة مخاوف من المستقبل، ومخاوف من قرارات مفاجئة جزافية، ناهيك عن تردي قيمة العملة المصرية (الجنيه) إلى أدنى مستوى في تاريخه، ويكفي أن نشير إلى أن الدولار الأمريكي كان يساوي نحو ستة جنيهات عام 2014 مع بداية تولي الرئيس عبدالفتاح السيسي مقاليد الحكم، الآن يساوي أكثر من 60 جنيها بالسوق الموازية، أو السوق السوداء، مع تراجع يومي، ألقى ظلالا كئيبة وغير مستقرة على كل مناحي الحياة تقريباً. أيضاً وصول الدين الخارجي إلى أرقام غير مسبوقة (ما يقرب من 170 مليار دولار) مع الوضع في الاعتبار أنه كان في حدود 40 ملياراً في بداية حكم الرئيس السيسي، إضافة إلى ديون داخلية تزيد حالياً على سبعة تريليونات جنيه، في الوقت الذي كانت تقدر في عام 2014 بـ 1.1 تريليون جنيه، وهذه الديون وتلك تلتهم مع فوائدها نسبة كبيرة من الناتج المحلي سنوياً لأجل السداد، التي جعلت من الأصول الثابتة المصرية مطمعاً للشراء والاستحواذ من دولة الإمارات تحديداً، ما يثير حفيظة الشارع المصري. كما يعاني المواطن في مصر بشكل عام، من ارتفاع أسعار السلع بشكل يومي لأرقام لم يعهدها من قبل، إضافة إلى ارتفاع نسب التضخم إلى ما يزيد على 35% الشهر الماضي، والبطالة 7%، والجريمة، وتعاطي المخدرات، والفساد، وغير ذلك من أوضاع سلبية عديدة، تنذر بانفجار الأوضاع، في غياب حياة سياسية وحزبية رشيدة، وغياب الحريات بشكل عام، مع بناء مزيد من السجون، ونشر مزيد من الخوف والرعب في أوساط المجتمع.
الأمر الآخر الذي لا يمكن تجاهله، هو الأزمة السياسية الداخلية المستمرة في مصر على مدى أحد عشر عاماً، منذ الإطاحة بنظام حكم الإخوان المسلمين، واستمرار سجن عشرات الآلاف منهم، دون وجود أية بوادر للمصالحة، أو الإفراج عنهم، مع الوضع في الاعتبار أن اقتصاد وأموال الإخوان خارج السوق المصري تماماً الآن، وخارج الحسابات المصرية، وهو اقتصاد لا يمكن التقليل من أهميته للسوق والاقتصاد في الوقت الحالي على أقل تقدير. كما أن استمرار ممارسات النظام في تجاهل سياسة الأولويات في الإنفاق، يفاقم من عملية فقدان ثقة المواطن في الحكومة من جهة، وفي المستقبل من جهة أخرى، حيث الإصرار على المشروعات الإسمنتية، ممثلة في الكباري والطرق، ومزيد من تخمة الوحدات السكنية، في الوقت الذي يتراجع فيه الاهتمام بالمشروعات الإنتاجية، أو خلق مصادر للحصول على العملات الأجنبية. في الوقت نفسه تتراجع عائدات السياحة بسبب التوتر في المنطقة، وتتراجع عائدات قناة السويس بسبب التوتر في البحر الأحمر، وتحويل كثير من الشركات مسارات السفن الخاصة بها إلى طريق رأس الرجاء الصالح، إضافة إلى تراجع تحويلات العاملين بالخارج، نتيجة مخاوف من قرارات أو إجراءات أو توقعات سلبية، وجميعها قضايا على قدر كبير من الأهمية. على أية حال، يمكننا التأكيد على أن استقرار قطاع غزة يمثل الأهمية الأكبر لمصر من بين كل هذه التحديات، ذلك أنه يمثل استقراراً خارجياً على الحدود الأكثر خطورة على الإطلاق، نظراً لوجود العدو التاريخي بكل ما يحمل من أطماع بلا حدود، في الوقت نفسه يمثل قطاع غزة أهمية كبيرة للاستقرار الداخلي أيضاً، نظراً لارتباطه بمجريات السياحة في الوطن ككل، وفي سيناء بشكل خاص، إضافة إلى ارتباط القطاع أيضاً بأزمة ترسيم حدود البحر المتوسط، وما يستتبعها من أهمية لحقول الغاز هناك، ناهيك عن علاقة استقرار القطاع نفسه بالملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس. وإذا وضعنا في الاعتبار حالة الاستياء التي تخيم على الشارع المصري، نتيجة الموقف العربي المخزي بشكل عام من العدوان على شعب غزة، الذي يدافع في نهاية الأمر عن الشرف العربي، ممثلاً في فلسطين المحتلة والقدس الشريف والمسجد الاقصى المبارك، فإن النظام في مصر، سوف يصبح أمام وضع مضطرب من كل الوجوه، إذا استمر في التعامل مع الصراع على إنه قضية فلسطينية محلية، أو أن مصر بمنأى عن التحديات، التي بدا واضحاً أنها تستهدف الوجود المصري في المقام الأول، قبل الوجود الفلسطيني.
كاتب مصري
المصدر: القدس العربي
لقد أصبحت مصر محاصرة بالنزاعات الإقليمية المسلحة بدول الجوار، والديون المثخنة بأطماع خارجية في الشراء والاستحواذ على الصروح الاقتصادية، ولا تظهر في الأفق أية بوادر للخروج من ذلك النفق المظلم ، لأن تعامل النظام المصري مع هذه النزاعات الاقليمية كأطراف خارجية وليس كأمن قومي عربي لتقف الانظمة العربية لدعمها .