حين نتحدث عن الإبداع الأدبي والفني سنلج عالماً واسعاً وكونا فسيحاً تدور في فضائه شموس الجمال والدهشة والحبّ، فلكل جرم إنسانيّ حكايته وأغنيته وربما نشيده الروحيّ. في عالم الإبداع نحن أمام ساحة لا نهائية الامتداد تتزاحم فيها الأضواء المبهرة والخافتة والظلال، وتغدو الكتابة رقصاً قزحيّاً على بللور يغبّشه البياض.
ولكن لماذا نكتب؟!.
لعلّه سؤال الجائزة الكبرى الذي يخشى الكتاب الخوض فيه والتصدّي له، إنّه السؤال الذي يلجأ كثير من المبدعين إلى الهروب منه، أو الالتفاف والتهرّب من الإجابة عنه، في حين ينتظر آخرون كثر أن يتمّ توجيهه إليهم ليطرحوا بتباهٍ وبثقة مفرطة إجاباتهم الاستعراضية المعلّبة، ويحملونها آمالهم وأوهامهم المورّدة.
قد تبدو “لماذا تكتب” جملة استفهامية عاديّة وبسيطة تماماً، تحمل بعضاً من الفضول ورغبة في اكتشاف ذات إنسانية مبدعة، وجلاء ما يحيط بها من سحرٍ وغموض. لكنّها، في الحقيقة، عبارة شائكة تنطوي على تعقيدات وأبعاد تستفزّ حشداً هائلاً مما ينتظر قوله، كما إنّ السؤال محرج وكاشف، يمكن لصيغته المخاتلة أن تدفع للتثبيط والإحباط، وإلى مزيد من الخيبة والياس.
حقّاً لماذا نكتب ولمن؟ ما الدافع؟ هل الكتابة الإبداعية استجابة لواجب أم إذعان للضرورة أم هي ناجمة عن محض الرغبة أم..، وهل الكتابة حاجة الذات أم الآخر؟ أليس سؤال لماذا نقرأ هو بمعنى ما إعادة إنتاج لذات السؤال لماذا نكتب؟
يمكن للكتابة أن تكون رهاناً مع قارئ ما مفترض، تحدياً لذائقته وفكره وإرادته، أو لعلّها تكون محاولة للتأثير في الآخر، وهو بالتأكيد قارئ متخيّل لكنّه أكثر تحديداً لأنّ الكاتب حدّد بعضاً من ملامحه وطباعه وكثيراً من صفاته وثقافته..؟! يمكننا أن نكون أكثر دقّة في التساؤل حول ما إذا كان الكاتب محقاً حين يؤمن بقدرته على تغيير قناعات قارئه ومفاهيمه وتشكيل تصوراتٍ ورؤى جديدة له؟
ثمّة حولنا الكثير من المواقف والأشياء مما يمكننا إسباغ صفات عليها لم تكن مطروحة أو متداولة، بل لعلّ الجمال والقبح، والخير والشرّ، والرفض والقبول، والانجذاب والنفور أحكام مؤقتة إن لم نقل غير قطعية محكومة بالمزاج والظروف أو بحالة الطقس، وبالتالي قابلة للتغيير من النقيض إلى النقيض، قد يكون الصوت المرافق للمضغ أو لتمزيق الورق مستهجناً ومثيراً للغضب أثناء حوار ما أو لحظة سكون ليليّ على سبيل المثال، وقد يتحوّل ذات الفعل إلى حالة احتفالية أو إلى حركة يقصد منها الغواية والتودّد، هل يدعونا ذلك إلى التأكيد على أن الكتابة أداة الكاتب للتفسير والإيضاح والتغيير..؟
الكتابة عطاء. لا ليست هي الكلمة المناسبة، كذلك القول بأنها منحة لا تفي بالقصد. ربما تكون رسالة أكثر صواباً ودقّة. يقوم الكاتب بإمداد القارئ أمصالاً متعدّدة المهام والتأثيرات، قد تكون البهجة أحدها لكن بالتأكيد سيكون من بينها أمور أخرى أكثر قدرة على إحداث التحريض في المخيلة أو العقل أو المشاعر. سيكون للمتلقي الوقت والفرصة للحصول على ما يبتغيه وبالطريقة التي يرتئي، وستحدث فوضى عظيمة بالتأكيد في المائدة المخادعة، نعم المخادعة فالكتابة الإبداعية شعراً وقصة وغير ذلك ليست بالضرورة مرتبة كما يريد لها المنطق أو القانون المجرّد، بل هي على ما هي عليه لأنّ ثمة فاعل فرض منطقه على الكتاب وقارئه.
الكتابة الإبداعية مجال للكشف والاكتشاف وللحوار مع الذات ومع الآخر، إنها مدخل رئيسي للبدء في قول حكايتنا وما نريد إيصاله دونما مقاطعة أو صخب، والكتابة بوابة القارئ الباحث عن نفسه وسط الفوضى والشكّ والخراب، إنها فرصته السانحة ليرى ما يشبه صورته على ماء الحكاية المتموّج، ويلمح شظايا قلبه متناثرة في غابات المعنى وبين مرايا اللغة المواربة.
في الكتب أبطال شجعان وآخرون جبناء منكسرون، أسياد وعبيد، جناة وضحايا، وكثير من الأفكار المنتصرة والمهزومة. لن يدهشنا أنّ هذه الشخوص قد تغيّر مواقعها وصفاتها ومصائرها، فهي لا تملك قدرها أو قرارها في التموضع أمام قارئ يمتلك مطلق الحرية في منحها ألقاباً وأوسمة وأسماء، ونهايات تليق بها وفق رؤيته وتصوراته وحده. لقد فعل الكاتب ذلك من قبل وكان حراً تماماً فيما شاء وأراد.
المصدر: إشراق