
“لدينا خطّ أحمر واضح جدّاً، وهو التخصيب. لا يمكننا السماح (لإيران) حتى بـ 1% من قدرة التخصيب”. هذا ما صرّح به المبعوث الأميركي للمفاوضات النووية مع إيران، ستيف ويتكوف، لمحطّة ABC الإخبارية الشهر الماضي (مايو/ أيار)، موجّهاً بذلك ضربةً قاسيةً لموجة التفاؤل التي واكبت المفاوضات، منذ جولتها الأولى في مسقط في إبريل/ نيسان الماضي.
ومعلوم أن اتفاق 2015 مع إدارة باراك أوباما قد سمح لإيران بتخصيب اليورانيوم في أرضها بنسبة 3.67%. لكن، وبعد أن انسحب دونالد ترامب من الاتفاق عام 2018، أخذت إيران ترفع نسبة التخصيب، ومن دون قيود، حتى وصلت إلى 60% اليوم، الأمر الذي جعلها تقترب من العتبة النووية التي تحتاج إلى نسبة تخصيب 90%، وبإمكان إيران اجتيازها في أشهر إن أرادت.
يصعب، حتى مجرّد التخيّل، كيف يمكن لإيران أن توافق، وضمن مفاوضات ثنائية مع الولايات المتحدة، على وقف التخصيب بالكامل، لمجموعة من الاعتبارات. فالتخصيب في أراضٍ إيرانية تعتبره طهران مسألة سيادة وطنية بالدرجة الأولى، وكرامةً وطنية لدولة وشعب وحضارة بآلاف السنين. الحلول المطروحة لتزويد إيران بما تحتاج إليه من يورانيوم مخصّب (ربّما من روسيا)، من أجل الاستخدام السلمي للطاقة النووية، إمعان في عملية الإذلال لإيران، التي “لا ترقى” إلى مستوى تخصيب اليورانيوم، وعليها “استجداؤه” من روسيا أو غيرها للاستخدام السلمي له. ثانياً، يسهم تخصيب اليورانيوم في أرض إيرانية في اكتمال ما تسمّى “الحلقة النووية”، إذ تجري أجزاء العملية كلّها، من استخراج اليورانيوم وتخصيبه واستخدامه، بأيدٍ وعقول إيرانية، ما يعني امتلاك إيران “المعرفة النووية”، التي ستشكّل جزءاً مهمّاً من استراتيجية الأمن القومي الإيراني لاحقاً، فاكتمال العناصر النووية كلّها، وامتلاك أدوات المعرفة النووية، يؤهّلان إيران مستقبلاً (في حال تعرّض أمنها القومي للخطر) إلى الارتقاء بما لديها من المعرفة والعناصر النووية إلى درجة الاستخدام العسكري لليورانيوم المخصّب.
وثالثاً، هناك الخسائر المادّية الهائلة التي ستتكبدها إيران في حال وافقت على وقف التخصيب، إذ استثمرت في تمتين قدراتها النووية منذ انسحاب ترامب من الاتفاق (2018)، فأصبح لديها آلاف الكيلوات من اليورانيوم المخصّب بدرجات منخفضة، وحوالي 300 كيلوغرام من اليورانيوم المخصّب بدرجة تصل إلى نحو 60%، فضلاً عن ألوف أجهزة الطرد المركزي، التي بنتها بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق، هذه المقدرات النووية كلّها سيطلب من إيران التخلّي عنها إن وافقت على شرط وقف التخصيب، الذي تطالب به الولايات المتحدة. نعلم أن القيادة الإيرانية تتمتّع بدرجات عالية من البراغماتية، ما يفرض عليها أن تزن الأمور بموازين الربح والخسارة، وارتباط ذلك بموازين القوى في الأرض، وبقدرتها على مواجهة قوة عسكرية هائلة مثل الولايات المتحدة، إن قرّرت الذهاب باتجاه التصعيد العسكري.
تعتبر إيران أن تخصيب اليورانيوم خارج أراضيها مسألة سيادة وكرامة وطنيتَين، والحلول المطروحة لتزويد إيران بما تحتاج إليه من يورانيوم مخصّب إمعان في إذلال إيران
ولكن، هل تصل البراغماتية بإيران درجة ابتلاع كرامتها الوطنية وكسر الحلقة النووية في أرضها، والتحوّل دولةً تتسوّل القليل من اليورانيوم من روسيا أو غيرها، لاستخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية؟ ثمّ كيف لها أن تقدّم نفسها إلى حلفائها الإقليميين (أو ما يطلق عليهم “أذرع إيران”) الذين ينظرون إليها مرجعيةً داعمةً لمشروع إقليمي أوسع، وهي التي ستكون قد تخلّت عن رمزية تخصيب النووي في أرضها.
تجريد إيران من قدرتها على تخصيب اليورانيوم، وعدم السماح لها، حتى بنسبة 1%، لا يمسّ بقدراتها النووية فقط، وإنما أيضاً (الأكثر أهميةً) سينعكس على أمنها القومي فيحدّ من بناء استراتيجية أمنية قادرة على بناء تحالفات مع الآخرين، وعلى وضعية إيران في الساحة الدولية وفي الإقليم. ستكون إيران من دون تخصيب بلا مخالب، ولذا من المستبعد أن تسمح براغماتيتها العالية باستيعاب هذا الهوان كلّه، الذي سيذهب بها إلى ما دون ما أنجزته في مفاوضاتها عام 2015 مع الولايات المتحدة وأوروبا (5 +1). كان هذا السيناريو الرافض نزع التخصيب واضحاً في الردّ الإيراني على التقرير الذي نشرته “رويترز” الأسبوع الماضي، وادّعى أن إيران وافقت على إلغاء التخصيب في أرضها. وكان الردّ الإيراني على التقرير حاسماً وفورياً بأنه ليس سوى أخبار مفبركة، وأن التخصيب في الأرض الإيرانية خطّ أحمر غير قابل للنقاش.
إزاء هذا التشدّد الإيراني تجاه مسألة التخصيب، يجدر التساؤل إن كان تصريح ستيف ويتكوف بـ”عدم التخصيب حتى بنسبة 1%” سيصمد في المفاوضات النووية، التي ما زالت تغصّ بتصريحات متفائلة من المسؤولين الأميركيين والإيرانيين بقرب توصّلهم إلى اتفاق. في كلّ الأحوال، على ويتكوف ومديره ترامب التفكير كثيراً قبل أن تدخل هذه التصريحات حيّز التنفيذ، فربّما كان عليهم ابتلاعها لنيل اتفاق نووي ذي مردود اقتصادي مجزٍ من جهة، على خلاف اتفاق 2015، الذي كانت فيه روسيا وأوروبا المستفيدتَين الاقتصاديتَين، وفي الوقت نفسه، يضع ضوابط لعدم تطوير إيران تكنولوجيا نووية ذات أهداف عسكرية، من دون أن تجرّد (من حيث المبدأ) من القدرة على التخصيب، كما يريد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في المقام الأول.
المصدر: العربي الجديد