ياسين الغماري يستجلي البعد النفسي في رواية الساعاتي “صانع الزمن”

بعد أسبوع، انتشرت سحابة سوداء وتلاشت السّماء تحت غُيوم مُظلمة.

كاشفني “توماس” أنّ ما أُعاني منه-وفقًا للأعراض-يندرج تحت مُسمّى اضطراب ما بعد الصّدمة النّفسيّة، وهذا أدّى إلى إصابتي-لاحقًا-بمُتلازمة التّعب المُزمن، وأنّ كل ما خبرته وما أعيشه ما هو إلّا رد فعل سوي لهذه الصّدمة، وهي مُحاولتي للبقاء على قيد الحياة. شرح لي أسباب الصّدمة وأعراضها كلون من ألوان التثقيف وتبسيط صُورة المرض. وإذا كنت أنشد الشّفاء فمن المُستوجب أن أفتح له قلبي فتحًا كاملًا. وينبغي التخلّص من طاقتي المكبوتة.

: قال وقد تركّز بصره نحوي

لا بُدّ أنّك تعرّضت لحادث مؤسف» حكّ ذقنه.»

لا شيء ممّا سبق» أجبت »

 «عندما تكذب، تُشيح بوجهك عن المُتّصل»

كلامه لا يخلو من منطق سديد. ابتسمت ولم أُحر جوابًا، ولأوّل مرّة في حياتي، لاحظني شخص ما بمثل هذه الدقّة الفائقة. أعلم ضمنًا أنّه كلّما زاد البوح، كُلّما كان من المُمكن التغلب على جدار الذّاكرة، ومن الأكثر رجحانًا أن أنسى وأمضي قدمًا وأنا لم أعد أرغب في اختراق أي طبيب لجداري. فالاعتراف مُدمّر وغامض مثل الأفعال. كنت أشعر بالإنهاك التّام من هذا الكون. كل ما أريده من العالم الخارجي أن يتركني بكل أشكاله. إنّه لأمر يرثى له. جسدي غالبًا ما يكون مُتعبًا، كما أنّي لا أريد مُغادرة المصحّة أو التواصل مع الأشخاص خارجها، وأنّي في مأمن أكثر من أي مكان آخر في العالم، ومع ذلك، كان هُناك شيء بداخلي يصرخ مُستنتجًا: “أنتَ على حق في أن تعيش حياتك”.

كان يُحادثني بصوت فيه شيء من التحوّط. «ما هو سبب كوابيسك إذن؟»

«بصنيع العقاقير الّتي تُعطيني إيّاها »

«الدّواء الذي تتناوله يعمل على منع حدوث هذه الكوابيس»

«ترتّب عنه تسوّس أسناني والتهاب اللثة»

وفي ضوء ما أخبرني به طبيب الأسنان-الّذي في زيّه الأزرق-فإنّ تناول الأدوية النفسيّة أدّى إلى جفاف بالفم نتيجة تأثيرها على الغدد اللعابيّة، ممّا زاد من معدّل البكتيريا. ترتّب عن ذلك لسوء الحظ سحب عصب أربعة أسنان وتلبيسها. أستطيع أن أقول كذلك إنّ مينا أسناني-هذه الطبقة الأكثر صلابة في جسم الإنسان  وغير القابلة للبناء-قد أصبحت هشّة بعض الشيء ذلك من تصاعد الحمضيات من بطني. وأستخدم الآن معجون أسنان خاصّ-غنيّ بالكالسيوم والفسفور وهيدروكسيلاباتيت-للتخفيف من حساسيّة الأسنان. كما أرقدُ بطقم شفّاف مطلي بتركيز عالٍ من الفلوريدا. وما عتَّم الطبيب “توماس” أن يدافع عن هذه الأدوية الصّاعقة.

سادنا شيء من الصّمت. لم يستطع الوصول إلى نتيجة مُحتملة معي. انفجر بداخلي يقين-بعد الفترة الزمنيّة في المصحّة-أنّ “توماس” كان مُنشقًّا قليلًا عن أطباء العقل الّذين كانوا معتوهين. ولّد في نفسي انطباعًا جيّدًا.

«أعطني بضعة أيّام أو أسابيع للتّفكير»

لكَ ما تشاء» هزّ رأسه بثقة حتّى يجعلني أعتاد الأمر بسهولة.  »

وعلى إنارة خافتة، قرأت في كتاب علم النّفس-الّذي أعطاه لي-أنّ الأعراض النّفسيّة والجسديّة لاضطراب الكرب التّالي للصّدمة تظهر في غُضون أسابيع أو أشهر أو سنوات من مُعايشة الحدث، حيث يُعاني المُصاب من خُطوب في التركيز والحفظ وعدم القدرة على النّوم، كما يُعاني من كوابيس ليليّة وشعور بالمُباغتة والهلع والاكتئاب والتّعب، والعديد من الأعراض الجسديّة الّتي تؤثّر سلبًا على قدرته على القيام بأنشطته اليوميّة، فيتفاقم غيابه عن الحياة، ناهيك عن نظره الضئيل للمستقبل الّذي يراه قد خلا، ويتطوّر الأمر به إلى اضطرابات شخصيّة فُصاميّة، فيرى ويستمع إلى أشياء غير موجودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى