من الميناء العائم إلى “غزة الإنسانية”

شادي لويس

قبل “منظمة غزة الإنسانية” كان ثمة استعراض آخر بذيء في عهد بايدن بعنوان الميناء العائم. لأسابيع وربما لشهور سيطرت أخبار ذلك الميناء شبه الوهمي على عناوين وكالات الأنباء، جدواه وتكلفته ثم سوء الأحوال الجوية التي جرفته، وبعدها إعادة تركيبه والمزيد من سوء الأحوال الجوية، وهكذا، حتى انتهى الأمر بتفكيكه من دون استخدامه تقريباً.

كان الميناء مجرد ستارة دخان تسمح لإدارة بايدن بالتظاهر أنها تفعل شيئاً بخصوص المأساة الإنسانية المهندسة إسرائيلياً في القطاع، وتخلل هذا استعراضات لإسقاط المعونات جواً شارك فيها عدد من الدول بموافقة إسرائيلية بالطبع. وفي الوقت ذاته، كان سيل الأخبار بشأن الميناء يعني تدريجياً تحويل الحرب في غزة إلى أزمة إغاثية، القفزة الثانية كانت بالتحايل على حقيقة أن تلك المأساة الإنسانية متعمدة وأن الحصار الإسرائيلي هو سببها، فعبر الإغراق في التفاصيل التقنية لـ”رصيف المساعدات” تتحول الكارثة الإنسانية إلى مسألة هندسية بحتة وتتداخل معها قوى الطبيعة متمثلة في الأحوال الجوية السيئة.

هذه المرة، وتحت إدارة ترامب، التي لا يعنيها حتى التظاهر بأنها تفعل شيئاً، تأخذ الكارثة الإنسانية منحى جديداً بعد أن وصلت إلى ذروتها. “منظمة غزة الإنسانية” الموكل لها إسرائيلياً وبرضى أميركي مهمة توزيع المساعدات، ليست عسكرة للعمل الإغاثي، بل بالأحرى هي عملية خصخصة لتلك العسكرة. لطالما أوكلت عمليات الإغاثة الإنسانية إلى مقاولين على الأرض، عبر شبكة معقدة من الهيئات الدولية ومؤسسات الدول المحلية مع المنظمات غير الحكومية والشركات الهادفة للربح.
والحال أن الطبيعة المخصخصة للعمل الإغاثي أمر قائم ومستقر. لكن كما أن غزة صارت ساحة رماية مفتوحة لاختبار فاعلية الأسلحة والتقنيات الجديدة للحرب والتدريب عليها، تتحول أيضاً إلى حقل تجارب للحروب بمفهومها النيوليبرالي، أي حروب الشركات الخاصة وفرق المرتزقة. بالفعل تتراجع إدارة ترامب عن الكثير من السياسات النيوليبرالية، لكن فيما يخص الحرب تبدو أنها ستذهب في الاتجاه المعاكس إلى أقصاه.

الميل الانعزالي للإدارة الجديدة ونقد مسؤوليها للمغامرات العسكرية للإدارات السابقة وراء البحر وبالأخص في الشرق الأوسط، لا يعني بالضرورة انسحاباً كاملاً من جبهات الصراع الملتهبة حول العالم، بل إدارتها بطرائق جديدة لا تتضمن أعباء مالية على الموازنة الأميركية المثقلة بالديون، ولا تطلب جنود مارينز على الأرض. ضمناً، تسعى”غزة الإنسانية” إلى استكمال جهود الحرب الإسرائيلية تحت قيادة أميركية وبحماية فرق من المرتزقة، ويتم تمويل هذا كله على المدى الطويل من التمويلات الدولية لأعمال الإغاثة.

لكن ليس هذا كل ما تهدف إليه المنظمة الغامضة، والتي تتكتم على ميزانيتها وتتدعي اعتمادها على تبرعات من دولة أوروبية، من دون تحديد. تعد “غزة الإنسانية” الخطوة الأخيرة في مسار طويل سارت فيه إسرائيل لنزع أي تأطير سياسي أو قانوني عن الغزيين. بداية قامت تل أبيب بدعم أميركي وأوروبي، بتعطيل عمل وكالة الأونروا وقطع موارد تمويلها بالإضافة إلى الطعن في مصداقيتها. كان يعني هذا رفع الولاية الأممية على الفلسطينيين بالعموم، وسكان غزة على وجه الخصوص.
الرفض الإسرائيلي المتواصل لدور للسلطة الفلسطينية في القطاع كان يعني استثناء كاملاً للغزيين من المزايا الشحيحة التي توفرها سلطة أوسلو للفلسطينيين في الضفة. ومع إصرار إسرائيل على عدم الاعتراف بوضعها القانوني كقوة احتلال في القطاع، تحل نفسها من أي مسؤوليات تجاه سكانه، وتجريدهم من الحقوق التي يقرها القانون الدولي للمواطنين في المناطق الواقعة تحت الاحتلال. وبمنع هيئات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية من العمل في القطاع، تضع إسرائيل الغزيين في منطقة رمادية بلا قانون وبلا أي مظلة للحماية، حيث يمكن فقط لفرق من المرتزقة أن تعمل بلا رقابة ولا مساءلة.

الفشل المخزي لمحاولات “غزة الإنسانية” في توزيع الغذاء على بعض الغزيين في اليوم الأول، لا يعني خسارة لإسرائيل. فسواء نجحت المنظمة أو فشلت، يربح الاحتلال في الحالتين.

المصدر: المدن

تعليق واحد

  1. محاولات الكيان الصه.يوني لفرض الحصار والتجويع والتهجير على شعبنا في فلسطين/غزة مستمرة، محاولات توزيع المساعدات من خلال شركات خاصة باءة بالفشل ، لأنها ولدت فاشلة، فشل مخزي بتوزيع الغذاء على بعض شعبنا في غزة في اليوم الأول، لا يعني خسارة للكيان الصه.يوني. فسواء نجحت المنظمة أو فشلت، يربح الاحتلال في الحالتين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى