حماية لبنان: الحكمة والوحدة الوطنية

غازي العريضي

الوضع السياسي الداخلي في البلاد مأزوم. عاش اللبنانيون على أمل أن ثمة انطلاقة سياسية جديدة واعدة، مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، بعد اتفاق وقف إطلاق النار مع اسرائيل. دولة الاحتلال و”الإبادة الجماعية” في غزة لم تلتزم ببند من بنود الاتفاق. ما ارتكبته بعد الاتفاق من جرائم وتوسّع واحتلال وتدمير وجرف قرى واعتداءات على المواطنين الأبرياء الذين أرادوا العودة إلى قراهم فاق إلى حدود بعيدة ما ارتكبته خلال الحرب.

في المقابل، نفذ الجيش اللبناني مهامه في الجنوب بشكل استثنائي، وبإمكانات متواضعة، باعتراف ممثلي الدول الراعية للاتفاق، والأمم المتحدة وقوات اليونيفيل التابعة لها، والموفدين الدوليين إلى لبنان. حقق الجيش خلال أشهر قليلة ما لم يتحقق خلال سنوات، لكن الثابت: لم يمارس أحد أي ضغط جدي على إسرائيل لوقف اعتداءاتها. كما لم يقدّم أحد دعماً للجيش سوى قطر التي جدّدت التزامها بما قدمته سابقاً. والجيش بحاجة إلى أكثر، والأهم هو الشعور العام في البلاد وفي المتابعة السياسية أن ثمة التزامات دولية وعربية. لكن إرادة التنفيذ لم تتبلور بعد.
يترافق هذا الأمر مع تشنجات في بعض الخطاب السياسي الداخلي المقلق جداً، ومع انتقادات للحكومة بأنها لم تفعل شيئاً يذكر حتى الآن، وأن طريقة إدارة الدولة لم تتغير عما كان قائماً في السابق. وفي ذلك مبالغة من جهة، وصحة وجهة نظر من جهة أخرى. بمعنى أن الخطوات تحققت ووضعت أمور على السكة، لكن جدول الأولويات ثقيل في الأساس. إذ من أين تبدأ؟ والبعض يتصرف كأن الأمور يمكن أن تتغير بكبسة زرّ. وهذا سوء تقدير خطير.

هذا الواقع لا يمكن فصله عما يجري في المحيط القريب، وعما يأتي من وراء المحيطات البعيدة. ما يأتي من القريب يؤكد أن أزمة الثقة بوضع البلد لا تزال قائمة. وبالتالي، لا يمكن تقديم أي مساعدة أو رفع حظر جدي عن العودة إلى لبنان قبل تنفيذ دفتر الشروط المطلوب وبالكامل دفعة واحدة. ولذلك ليس ثمة حماسة لدعم الجيش فعلياً والمؤسسات الأمنية، والنقاش عالق في لبنان في الحكومة والمجلس النيابي حول الإصلاحات المالية وعملية إعادة هيكلة المصارف أو تنظيم عملها، وأموال المودعين ومصيرها، وغيرها من القضايا.. وحالة من الفوضى والشعبوية والصراع القوي المعلن بين الأطراف المعنية، لأن ثمة شبكة مصالح كبرى متجذرة. ورغم كل الخسائر التي مني بها البلد وأهله، لاسيما المودعون، يتصرف البعض بشراسة وكأن شيئاً لم يكن. أما المطلوب الجوهري الفعلي فهو: “نزع سلاح حزب الله فوراً”. وأضيف إليه الآن: “نزع السلاح الفلسطيني” فوراً أيضاً. وهما قضيتان تصعب معالجتهما بهذه الطريقة. مع التأكيد على أن المصلحة الوطنية اللبنانية تقضي بالتنفيذ الكامل لما ورد في خطاب القسم الذي أعلنه رئيس الجمهورية بعد انتخابه، والبيان الوزراي الذي أجمعت عليه مكونات الحكومة. آخذين بالاعتبار ضرورة تأكيد التلازم بين الإرادة والإدارة. بمعنى تثبيت الإرادة الجامعة وإدارة عملية التنفيذ بعقلانية وحكمة لتحقيق أهدافها. والخلاف السياسي هنا تغطي فيه المواقف الآتية من المحيط القريب مواقف قوى لبنانية تتصرف هي الأخرى من موقع المنتصر، المستقوي، الذي لا يريد تفويت فرصة ترجمة “الانتصار” بسرعة. وأعتقد أن في ذلك أوهاماً كثيرة وكبيرة، وإصراراً على عدم التعلم من التجارب السابقة.

هنا نقف عند ما يعلن من وراء المحيطات، ويترك صداه عند هذه القوى التي يتصرف بعضها على قاعدة “لا مجال لتضييع الوقت، فلتحسم الأمور بسرعة ولتكن مواجهة بين الجيش والذين يتمسكون بسلاحهم غير الشرعي”، آخذين بالاعتبار أن إسرائيل ستبقى تمارس اعتداءاتها. ويتم تسريب معلومات عن احتمال توسيع دائرة الاعتداءات، وصولاً إلى الحديث عن تجدّّد الحرب! وهذا أمر خطير جداً لأنه سيضع الجيش في مواجهة كبرى. والواضح ان رئيس الجمهورية وقائد الجيش لا يميلان إلى مثل هذا التوجه.
ولذلك تنصبّ الحملات في الداخل بتأثر المحيط القريب وما وراء المحيطات من مواقف ومخططات.. آخرها، ما أرسله مسؤول أميركي كبير لبنان ومفاده: “لا تراهنوا على وقف النار عندكم ما دام نتنياهو رئيساً للحكومة. فلن يتغير شيء.
ستستمر إسرائيل في أعمالها، ولا أحد يعلم ماذا يمكن أن يحصل. والمشكلة أن نتانياهو يتصرف على أساس جمع كل الأوراق للفوز في انتخابات العام المقبل. قبل ذلك لا تتوقعوا إلا الاستمرار بالسياسة الاسرائيلية ذاتها”. الكل يعلم أن الجيش الإسرائيلي يريد الانسحاب، لأن المواقع التي يحتلها ليست استراتيجية أو لا يستغنى عنها. لكن القيادة السياسية ترفض ذلك. وهذا ما نقل إلى عدد من المسؤولين والسياسيين اللبنانيين من قنوات دولية مختلفة.

لبنان لا يزال في دائرة القلق والعناية الفائقة، في مرحلة يعاد فيها توزيع مناطق النفوذ والأدوار في المنطقة، ولا شك أنه سيتأثر فيها. وما يجري من غزة إلى الضفة، إلى سوريا وبداية الحوار السوري-الإسرائيلي، والدعم الأميركي للتركيبة الجديدة في سوريا، والأهم ما يجري على خط المفاوضات الايرانية- الأميركية، وبعض الخلافات الظاهرة بين الإدارة الأميركية ونتنياهو، أعتقد أنها عناوين أساسية مطلوب متابعتها أكثر من نقل مورغان أورتاغوس من مكان إلى آخر، على أهمية الدلالات في سياق بعض الحسابات، والتي بدا واضحاً أن ثمة لبنانيين لم يتعلموا عندما سكروا على مواقفها السابقة أو عندما صدموا بمعلومات عن تغييرها.

لا يحمي لبنان إلا العقل. الحكمة. التبصّر. الوعي. الوحدة الوطنية بعيداً عن تحليلات التمنيات والحسابات الصغيرة الضيقة والأحقاد الدفينة في النفوس وعقول الكهوف!

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى