
قبل حوالي عشرة أيام بثت قناة «سوريا بودكاست» على يوتيوب حديثاً أجرته مع عزيزة جلود، زوجة النقيب الذي قاد العملية الشهيرة في مدرسة المدفعية بحلب، صيف العام 1979.
ورغم ما مر بالبلاد من ويلات عقب ذلك، وما تجدد بصورة أكبر خلال سنوات الثورة؛ تحتفظ هذه العملية بموقع تأسيسي لا ينازعها عليه حدث آخر، وبأثر راضٍّ في الأوساط العلوية يتجدد طازجاً بمجرد ذكر اسم إبراهيم اليوسف. الرجل الذي يثير استقطاباً حاداً بين من يرى أنه تجسيد كامل لوصف «المجرم»، وبين من يعتقد، على الضفة الأخرى، أنه «بطل» تنبه مبكراً إلى مجموعة حقائق أكدتها سنوات الثورة؛ كالتمييز الطائفي في الجيش كنموذج مركز عن الحياة العامة، واستحالة مقارعة نظام الأسد إلا بالوسائل العسكرية التي تعد طريقاً للفداء إن كانت ضعيفة كما كانت حال اليوسف ورفاقه الذين قضوا شهداء في نظر أنصارهم، أو يكون العمل الجهادي سبيلاً للنصر كما حصل مع «الثورة الثانية» كما يحلو للبعض أن يسمّوا ما جرى في سوريا منذ العام 2011، محتفظين للتمرد الذي أطلقه تنظيم «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين»، في نهاية عقد السبعينيات وبداية الثمانينيات، بوصف الثورة الأولى.
والحقيقة أن بين الحراكين وشائج وتناقضات. فقد انطلق الأول على يد مجموعة صغيرة، مسلحة، طائفية، نشأت في رحم «الإخوان المسلمين» من دون رضى الأم التي انزلقت إلى الصراع، الذي حفز جماهير على الانتفاض في حماة وحلب وأقل من ذلك في محافظات أخرى، وشجّع نقابات وأحزاباً سياسية قومية ويسارية على رفع الصوت والمطالبة بإسقاط النظام. في حين أن الثورة، بالمعنى المتفق عليه الآن، بدأت بالعكس؛ حراكاً سلمياً اضطر إلى التسلح، ومطالب سياسية اتجهت نحو الجذرية، وطابعاً ظاهراً من المدنية متعددة الطوائف انحسر إلى تكثيف سنّي لم يهدّئه انتصار الثورة بل أطلقه من قمقمه وصول جماعة إسلامية إلى الحكم.
والحال أن أحد العناصر التي يتفق عليها الجهاديون هي كراهية «الإخوان المسلمين»، سواء أخرجوا أصلاً من عباءتهم أم لا. وهو ما تتفق عليه «الطليعة المقاتلة»، ولا سيما في أيامها الأخيرة، مع «هيئة تحرير الشام» التي لم تؤثر عنها علاقة طيبة مع «الإخوان» لا خلال سنوات الثورة ولا بعدها. ولطالما كان السبب هو لوم الأخيرين على «سياسيتهم»، في «التحالف الوطني لتحرير سوريا» في آذار 1982 وفي «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» منذ تشرين الثاني 2012 حتى إعلان حل نفسه.
في البودكاست المشار إليه، وقبله في كتاب كانت أصدرته بعنوان «إبراهيم اليوسف وصفحات من تاريخ الطليعة المقاتلة في سوريا»، تتبنى جلود رواية الثورتين المتكاملتين بعد مدة انقطاع طويلة. وترى أن سنوات سجنها الإحدى عشرة لم تذهب سدى الآن، وأن «حق» زوجها سيعود، خاصة وأن قوات السلطة الحالية قبضت، بالصدفة، على مساعد الأمن الذي أطلق عليه الرصاصة الأخيرة. وإن كانت تختتم ذلك مستغربة من إطلاق سراحه بعدها.
تدافع أم ياسر عما فعله زوجها بأنه ردة فعل، ليست عادلة بالضرورة، على ما شعر به من تمييز وصل إلى حد الانتقاص من مكانته كضابط، لكنه «سنّي» في نهاية الأمر. بل إنها امتلكت أسبابها الخاصة لكراهية النظام والمشاركة في العمل ضده بسبب ما عانته، وشاهدته، في فروع المخابرات التي دخلتها بداية لمجرد أنها زوجة مطلوب لم تكن تعلم، في حقيقة الأمر، شيئاً عن الانتماء السري لرجلها، ولم تلتقط منه، في صباح ذلك اليوم الذي نفّذ فيه عمليته، أي إشارة إلى ما سيحدث ويقلب حياتهما.
وفي مواجهة منح جلود صوتها، ومنح الجميع أصواتهم بطبيعة الحال، يبرز موقفان؛ يدعو الأول منهما إلى طيّ السجادة والجثة بداخلها بدعوى أن فتح ملف المجازر يؤجج الأحقاد ويهدد السلم الأهلي في مرحلة «حرجة» لا تنتهي. ويمارس الثاني، عملياً ومن دون إعلان، احتكار الرواية لصالح جهة. كما سبق للنظام أن فعل بصدد هذه المجزرة منذ حدوثها وحتى أصدرت قناته الرسمية، «الإخبارية السورية»، قبل سنوات، فيلماً وثائقياً عنها بعنوان «بصمات الدم الأولى» التقى ببعض الشهود الأحياء من الذين استهدفتهم. وكلا الموقفين خاطئ.
فمن جهة أولى لم يُفد تجاهل المجازر في منع تكراراها وتولدها من بعضها بل العكس، طالما هي حية في نفوس الناجين منها وأهل ضحاياها وبيئتهم. بل إن وضعها على الطاولة والتفرس فيها هو الكفيل بتخفيف الاحتقانات الناجمة عنها. أما رفض سماع رواية أحد الطرفين كلياً فانحياز عار مهما تستر بعدم السماح للمرتكبين، أو من يمثلهم، بممارسة التشويش على رواية الضحية. ففي النهاية ينتمي المجرم الكامل والضحية التامة إلى عالم ليس من هذه الأرض التي تحوي تدافعاً مستمراً من الأفعال وردّاتها. ويفيد فهم هذا التراكم وتحليل السياق في تقليل التكرار.
هل ستؤدي قصة عزيزة جلود إلى معرفة أكبر بدوافع زوجها؟ نعم. وهل ستخفف من غلواء من يعدّونه شيطاناً بشرياً خالصاً؟ ستفعل على الأغلب. لكن ذلك لازم بقدر ما هي هامة مشاهدة اللقاء الذي أجرته «الإخبارية السورية» ضمن الوثائقي نفسه مع أحمد ميهوب علي، الكهل وقتئذ، الضرير منذ أكثر من ثلاثين عاماً بعدما فقد بصره نتيجة لإصابته بشظايا في ذلك اليوم. بل إن اللحظة القصوى ربما تكون حين يلتقي الشاهدان؛ مؤيد العملية وضحية المجزرة.
هذا هو سبيل التعافي المجتمعي وشق طرق السلام الصعبة. وهو أحد المقومات الرمزية للعدالة الانتقالية طالما أن العدالة الفعلية يفترض أن تبقى بيد قضاء عادل وبارد يحاسب على الأفعال. تاركاً ما سوى ذلك من مشاعر الحقد أو التقديس أو التعاطف أو الغضب بعيداً عن قوس المحكمة التي تأخذ بالقسط.
المصدر: تلفزيون سوريا
قراءة وتحليل دقيق لموضوع “إبراهيم اليوسف” ومجزرة مدرسة المدفعية، وتاريخ الطليعة المقاتلة في سوريا، إن فتح هذا الملف في هذا الوقت أعتبره تفتق الجراح، لأننا بصدد التعافي المجتمعي وشق طرق السلم المجتمعي الصعبة. التي هي أحدى المقومات الرمزية للعدالة الانتقالية،