
بعد سنوات طويلة من الركود والانكماش الحاد والتحديات الكبيرة التي لا تزال قائمة مثل تدهور البنية التحتية ومحدودية الموارد المتاحة، يقف الاقتصاد السوري اليوم على أعتاب مرحلة مفصلية، تتوفر فيها فرص حقيقية للتعافي الاقتصادي، مدعومة بتغيرات سياسية حقيقية وتخفيف ورفع للعقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، بالتزامن مع مؤشرات واضحة على قدرة قطاعات اقتصادية معينة على استعادة عافيتها بسرعة أفضل من غيرها، مما قد يسهم في إحداث تحول إيجابي في حياة السوريين.
هذه القطاعات يأتي في مقدمتها القطاعان المالي والمصرفي، والزراعة، والطاقة، والصناعة، إضافة إلى قطاعات الخدمات كالتعليم والصحة والتجارة، التي سيكون تعافيها بشكل متوازٍ؛ حيث ستشكّل حجر الزاوية للمعجزة الاقتصادية السورية. ومن هنا تأتي أهمية تحليل هذه القطاعات والتعرف على مقومات نجاحها، وكيف يمكن للحكومة والقطاع الخاص التعاون لتسريع التعافي، وخلق بيئة استثمارية جاذبة تسهم في إعادة بناء اقتصاد متنوع ومستدام.
يقول الباحث الاقتصادي أدهم قضيماتي: “يمكن أن تتعافى القطاعات الاقتصادية بشكل متزامن بحسب الإجراءات التي سيتم اتباعها في كل قطاع على حدة، وجميع القطاعات تحتاج إلى وقت ريثما يتم توفير الظروف والشروط الخاصة بإعادة تنميتها وتعافيها”.
القطاع الأول: القطاع المالي والمصرفي
يُعتبر القطاع المالي والمصرفي أحد أبرز القطاعات المرشحة لاستعادة دوره المحوري في الاقتصاد السوري بشكل سريع، خاصة مع توجه الجهود نحو إعادة فتح قنوات التواصل مع النظام المالي العالمي؛ فلقد عانى هذا القطاع خلال السنوات الماضية من عزلة كاملة عن الأسواق الدولية، مما أدى إلى تعطيل حركة التجارة الخارجية وتقليص حجم الاستثمار الأجنبي المباشر حتى انعدامه، فضلاً عن تراجع ثقة المستثمرين المحليين والدوليين.
اليوم، مع رفع العقوبات المفروضة على البلاد وإعادة دمج المؤسسات المالية السورية في الشبكات المصرفية الدولية، تتوفر فرص كبيرة لإعادة تأهيل وتطوير القطاع المصرفي. ولتحقيق هذا الهدف، يتطلب الأمر مجموعة من الإصلاحات الأساسية، مثل تحديث القوانين المالية والمصرفية، وتعزيز الشفافية والحوكمة في أداء البنوك، إضافة إلى اعتماد نظم تكنولوجية حديثة في العمل وتأهيل كوادر قادرة على مواكبة هذه التطورات.
في هذا الإطار، يقول قضيماتي: “يتم العمل حالياً على إعادة تهيئة القطاع المالي وإصلاح القوانين الخاصة به وربطه بالاقتصاد العالمي، لكن الأمر يحتاج إلى وقت، لوجود تخوف بدأ منذ 14 عاماً من قبل البنوك الدولية من إعادة العمل مع سوريا، كما أن إعادة تصنيف سوريا في الائتمان يلعب دوراً في تسريع عملية التعافي”.
القطاع الثاني: قطاع الزراعة
يعد قطاع الزراعة من الركائز الأساسية في الاقتصاد السوري، وهو يتمتع بمقومات تؤهله للتعافي بشكل سريع، لا سيما مع توافر مساحات واسعة من الأراضي الخصبة وتنوع الموارد المائية والخبرة الزراعية الممتدة لدى السوريين. وبالرغم من الضرر الذي لحق بالقطاع الزراعي خلال السنوات الأخيرة بسبب النزاعات وتدهور البنية التحتية الزراعية، تبقى قدرته على التعافي عالية، خاصة إذا تم توفير الدعم الحكومي الكافي للمزارعين، وإعادة إصلاح شبكات الري وتأمين المستلزمات الزراعية الضرورية.
ولتحقيق تعافٍ فعلي في قطاع الزراعة، يجب التركيز على تطوير المحاصيل الاستراتيجية، وخصوصاً تلك التي تسهم في تحقيق الأمن الغذائي مثل القمح، والمحاصيل الصناعية مثل القطن، إضافة إلى إعادة الاعتبار للمنتجات التصديرية مثل الزيتون والفستق الحلبي والحمضيات، وذلك من خلال سياسات دعم واضحة وأسعار مشجعة تضمن للمزارعين عوائد مناسبة، بجانب تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار.
يضيف الباحث قضيماتي في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: “يمكن أن يتأخر القطاع الزراعي قليلاً في التعافي نتيجة التهجير الذي حصل للفلاحين واليد العاملة، وأصحاب الأراضي حالياً يعملون على إعادة استكشاف أراضيهم وما تحتاجه، ريثما يتم إعادة استصلاح هذه الأراضي ودمجها بالمنظومة الزراعية وتقديم الدعم اللازم، الذي بدأ بهذا الخصوص، بالرغم من كونه دعماً خجولاً، وهذا ما سيساعد على تسريع حالة التعافي السريع الذي سيبدأ بالظهور الحقيقي بعد موسم أو موسمين”.
القطاع الثالث: الطاقة والنفط
يمتلك قطاع الطاقة والنفط في سوريا فرصاً واعدة لتحقيق تعافٍ سريع، بالرغم من الأضرار الكبيرة التي لحقت بالبنية التحتية النفطية خلال العقد الماضي؛ حيث تبقى الإمكانات الإنتاجية القائمة حافزاً مهماً لاستئناف نشاط هذا القطاع، خاصة مع توافر احتياطيات نفطية وغازية غير مستثمرة بعد، يمكن الاعتماد عليها في تعزيز الموارد المالية للبلاد، بجانب رغبة شركات كبرى في الاستثمار في هذا القطاع.
إن إعادة تأهيل حقول النفط والغاز، إلى جانب تطوير البنية التحتية المرتبطة بالإنتاج والتوزيع، تُمثل أولوية استراتيجية للاقتصاد السوري في المرحلة القادمة. كما أن الاستثمار في مصادر الطاقة البديلة، مثل الطاقة الشمسية والرياح، يمكن أن يُسهم في تخفيف الضغط على الموارد التقليدية وتلبية احتياجات القطاعات الأخرى بكفاءة أكبر. وبطبيعة الحال، سيكون لتعافي قطاع الطاقة أثر مباشر على جميع القطاعات الاقتصادية الأخرى، وخصوصاً الصناعة.
القطاع الرابع: الصناعة
يشكّل القطاع الصناعي ركيزة أساسية في أي خطة تعافٍ اقتصادي لسوريا، بالنظر إلى دوره التاريخي المهم في توفير فرص العمل وتعزيز النمو الاقتصادي؛ وعلى الرغم من تأثّر هذا القطاع بشدة نتيجة الحرب، لا تزال هناك بنية أساسية صناعية قادرة على النهوض بسرعة إذا تم التركيز على إعادة التأهيل بشكل منهجي، مع دعم استراتيجي حكومي وتشجيع للقطاع الخاص.
ومن أجل تحفيز الصناعة المحلية، ينبغي التركيز أولاً على إعادة تشغيل المنشآت الصناعية في المدن الكبرى، مثل حلب ودمشق وحمص، مع توفير الحوافز اللازمة للصناعيين السوريين الذين اضطروا إلى مغادرة البلاد أو وقف نشاطهم. كما يتطلّب الأمر تحديثاً شاملاً لخطوط الإنتاج واعتماد تقنيات متقدمة تساعد في رفع مستوى الجودة والكفاءة، بما يتوافق مع المعايير الدولية، وهو ما يُسهّل دخول المنتجات السورية إلى الأسواق العالمية ويُعزز من قدرتها على المنافسة.
القطاعات المشتركة: التعليم والصحة والتجارة والخدمات
رغم أن قطاعي التعليم والصحة لا يُنظر إليهما عادة كمحركات اقتصادية مباشرة، فإن دورهما في دعم عملية التعافي الاقتصادي لا يقل أهمية عن أي قطاع إنتاجي؛ حيث إن إعادة بناء الإنسان السوري تبدأ من استعادة حقه في تعليم جيد ورعاية صحية كريمة، وهو ما ينعكس لاحقاً في رفع كفاءة القوى العاملة وزيادة الإنتاجية في مختلف القطاعات.
كما أن تحسين مستوى الخدمات التعليمية والصحية والكهرباء والمياه يُساهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي ويُشجع على عودة الكفاءات السورية من الخارج. في المقابل، يُشكّل قطاع التجارة، سواء الداخلية أو الخارجية، شريان الحياة للاقتصاد، ووسيلة فعالة لتحريك الأسواق وتدوير رأس المال؛ حيث إن تنشيط التجارة يتطلب بنية لوجستية حديثة، وتبسيط الإجراءات الجمركية، وفتح قنوات جديدة مع الأسواق المجاورة والدولية، بما يتيح تصريف المنتجات السورية بسهولة.
يضيف قضيماتي: “نرى حالياً توجهاً من قبل الدولة السورية لعقد اتفاقيات وشراكات مع مختلف الدول لتطوير الخدمات وإعادة إحيائها، وهذا الأمر يحتاج إلى فترة زمنية حتى يصل التمويل وتبدأ عملية التشغيل”.
بشكل عام، إن مسار التعافي الاقتصادي في سوريا يتطلب تخطيطاً دقيقاً وإدارة واعية للموارد، ترتكز على تفعيل القطاعات الأكثر قدرة على النهوض السريع؛ حيث يُمثّل كل من القطاع المالي، والزراعي، والطاقي، والصناعي، وقطاع الخدمات الاجتماعية والتجارية، أعمدة أساسية لهذا التعافي. فالنجاح في إعادة تشغيل هذه القطاعات لا يعتمد فقط على الاستثمارات أو التمويل، بل على توافر الإرادة السياسية، وبيئة قانونية مشجعة، واستقرار اجتماعي وأمني، وتعاون دولي مع سوريا، خصوصاً من الدول العربية الشقيقة ودول الجوار، لكونه سينعكس إيجابياً عليهم من النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية. كما أن المستقبل الاقتصادي لسوريا يرتبط بقدرتها على بناء اقتصاد متوازن، يُحقق العدالة الاجتماعية، ويوفر فرص عمل، ويُعيد الثقة للداخل والخارج على حد سواء.
المصدر: تلفزيون سوريا
قراءة موضوعية للوضع الإقتصادي في سورية بعد التحرير، سنوات طويلة من الركود والانكماش، لتقف أمام تحديات كبيرة كتدهور البنية التحتية ومحدودية الموارد المتاحة، مما يتطلب تخطيطاً دقيقاً وإدارة واعية للموارد، بتفعيل القطاعات الأكثر قدرة على النهوض السريع، كالقطاع المالي، والزراعي، والطاقة، والصناعة، كأعمدة أساسية لهذا التعافي .