
الإجابة عن الأسئلة التأسيسية عادة ما يكون مدخلاً للتقليل من سوء التفاهمات بين المتحاورين، المهتمين بحقل معرفي أو فكري أو نقاشي في الفضاء العام.
من هنا فإن محاولة الإجابة عن هذا السؤال في سياق الحديث عن اتحاد الكتاب العرب في سوريا مهم جداً، خاصة أنه ينتقل من مدار قديم إلى مدار جديد، يلائم تحولات الثورة السورية وما بعدها.
تنبغي الإشارة إلى أن حالة اتحاد الكتاب في سوريا مقارنة باتحادات الكتاب في الدول العربية الأخرى هي الأكثر تفعيلاً للجانب النقابي، وهذا يعود إلى رغبة سابقة من الحكومات المتتالية في جعل الاتحاد تابعاً لها، وبالتالي ربط أعضائه بمصالح محدَّدة تتقاطع معها، وهذا ليس واقع حاله فحسب، بل حال النقابات والاتحادات في سوريا، وذلك نتيجة آليات الفكر الشمولي في الدولة المتغولة التي تريد أن تبتلع الحراكات المجتمعية لتصبح جزءاً منها.
تشتكي روابط الكتاب العربية من أنها لا تتلقّى دعماً كافياً من الدولة، وبالتالي تكون أحوالهم فقيرة وقدراتهم النشاطية محدودة، لأنهم يعتمدون على اشتراكات الأعضاء ودعم محدود من وزارة الثقافة أو عدد من المتبرعين في مجتمعات لا تولي التبرع للثقافة كثيرا من الاهتمام.
بيْد أن هذا الاهتمام من الدولة باتحاد الكتاب العرب في سوريا ربطه بها مباشرة وجعله يدور في فلكها بصفته أداة من أدوات التعبير عنها.
وفي الوقت نفسه فإنّ البعد النقابي الكبير الذي يسيطر على الاتحاد جعل منه مقصداً لكثيرين ليسوا من عالم الكتابة، رغبة بالاستفادة من حسنات الانضمام إليه متمثلة بالجمعية السكنية أو التقاعد والضمان الصحي أو بعض الخصومات أو مساعدات الوفاة.
أي أن دوافع الانضمام إليه ليست دوافع إبداعية أو رغبة بالاشتراك مع مبدعين آخرين ضمن مجموعة واحدة فحسب، بقدر كونها دوافع أخرى لها علاقة بالحياة المعيشية، وهذا أدى بالتالي إلى وجود ركام كبير من المنشورات الميتة والمنتسبين غير الفاعلين.
لذلك طغى بعد الاتحاد النقابي على كثير من فعالياته ودفع كثيرا من قياداته المتتالية إلى تقديم النقابي على الإبداعي: في نشر الكتب والمقالات والترشيحات لأن المنتسب إلى نقابة ما يفترض أن له أحقية أكثر من غير المنتسب، وبالتالي مهمة هذه النقابة تحقيق أهدافه ومصالحه.
من هنا فإن القيادات المتتالية كان لها مصالح انتخابية تدفعها لإغماض العين عن الإبداعي لمصلحة النقابي، ولا يمنع من وجود تقاطع بينهما أحياناً.
ربما يسمي عديدون بعض ما حدث عبر تاريخه “شراء ولاءات” أو ألعاب انتخابية أو تحقيق مصالح متبادلة، وقد يسميه من هو خارج الاتحاد: فسادا مبطنا.
أحد أهم الأسئلة التي تطرح اليوم: كيف عيّنت القيادة السياسية في سوريا قيادة جديدة للاتحاد: اسمها تسيير أعمال، ويحتج كثيرون على أن القيادة السابقة في عهد النظام السابق هي قيادة منتخبة؟
من المضحك الحديث عن انتخابات في عهد نظام بائد قتل مليون سوري، وهو نظام متغوّل متوحش، إن تحركت نملة فإن المخابرات خلفها، ومن المضحك أكثر لمن يعتقد من الكتاب النقابيين أو القيادات السابقة أنهم جاؤوا تحت إطار كاذب اسمه “انتخاب”، لأن الأولى بكثير منهم الاعتذار والعزلة الذاتية والخجل من التاريخ الشخصي.
لأن من كانوا مفصولين أو تعرضوا للظلم في المراحل القديمة يرون أن كثيرا ممن كانوا عليهم أن يُعْزِلوا أو لا يدخلوا الاتحاد مرة ثانية لا يزالون فاعلين، لذلك يطالب المفصولون من قبل قيادات الاتحاد إبان حكم نظام المخلوع بعدالة انتقالية ثقافية سريعة تحقُّ الحق وترفع المظالم..
مفهومٌ أن بعضهم يصر على البقاء والدفاع عن خطواته السابقة كي لا تتم محاسبته على ما ارتكب فكرياً ومالياً، لكن طريق المحاسبة، اليوم أو غداً، قادم لا محالة في طريق العدالة الانتقالية الثقافية، وهذه الأساليب الشكلية لن تفيد شيئاً، والتأخير ليس أحسن الحلول.
اليوم، في سوريا الجديدة أيهما أفضل للاتحاد: تعميق الصيغة النقابية أم الصيغة الثقافية؟
من نافل القول: إن النقابات والاتحادات في سوريا اليوم لديها فرصة تاريخية للخروج عن جلدها القديم من خلال سنّ أنظمة داخلية معاصرة تتماشى مع ما حدث في سوريا وما حدث في العالم ومبادئ حقوق الإنسان، ولدى الاتحادات جميعاً استثمارات تمكنها من العيش بحرية واستقلالية، الأمر مناطه ثلاث إرادات:
إرادة السلطة الحالية.
إرادة النقابين أو الاتحاديين.
إرادة المجتمع السوري ووعيه ومفاهيمه وتنوعه.
من جهة السلطة الحالية، وفقاً لتجربتي، التي مرّ عليها شهر واحد، تخلله عدة حوارات، يبدو من الواضح أن هناك مساحات شاسعة للعمل النقابي والثقافي، لدى القيادات المكلفة التي اختيرت بطريقة الاستقراءات والمشاورات المطولة وصولاً لاختيار الأكفأ وفقاً لظروف البلد الحالية.
وهي طريقة مفضلة في الدول التي تخرج من نزاعات طويلة لأن الانتخابات في مثل تلك الظروف ستكون عوامل تفرقة اجتماعية جديدة ومدخلاً لصراعات عدة. ولا سيما أن الاختيار تمّ بعد عدة تصفيات، ومقابلات ومناقشات مع المرشحين ومعرفة مشاريعهم ورؤاهم وأفكارهم لاختيار الأنسب للاتحاد.
من جهة النقابيين ما يزال البون شاسعاً، ويحتاج إلى ندوات وحوارات مكثفة للوصول إلى نقاط مشتركة، لأن من كانوا مفصولين أو تعرضوا للظلم في المراحل القديمة يرون أن كثيرا ممن كانوا عليهم أن يُعْزِلوا أو لا يدخلوا الاتحاد مرة ثانية لا يزالون فاعلين، لذلك يطالب المفصولون من قبل قيادات الاتحاد إبان حكم نظام المخلوع بعدالة انتقالية ثقافية سريعة تحقُّ الحق وترفع المظالم (من وجهة نظرهم) ويعتقدون أن الثورة لا يكتمل انتصارها إلا بحدوث ذلك، وأن السلطة قد يكون لديها حساباتها والتزاماتها التي تمنعها من تحقيق ذلك أما المنظمات والاتحادات فلديها حرية أكبر، وعليها أن تكون قدوة للدولة.
أما من كانوا ناشطين من النقابيين والاتحاديين إبان الثورة السورية، وبقوا في سوريا، فمنهم من انسحب أو اعتزل فضاء الاتحاد مكتفياً بالخجل مما كتب أو مشاركاته، منهم من فلسف الأمر وبات يعطيه أبعاداً أخرى من مثل: لولانا لما بقي الاتحاد، كنا الضامنين لكي لا ينحدر الاتحاد أكثر وأكثر، وحينها تحضر أسئلة:
ما هو الأكثر من انضمام المجرمين القاتلين إلى الاتحاد؟
ما هو الأكثر من السكوت على مجازر الكيماوري أو تشجيعها؟
ما هو الأكثر من الترحيب المتكرر بمجازر الجيش المجرم وقيادته؟
ما هو الأكثر من الشماتة بمآسي السوريين والسوريات خلال مرحلة الثورة؟
ما هو الأكثر من كتابة الكتب وطباعتها التي تشيد بقاسم سليماني وحسن نصر الله وبشار الأسد؟
ما هو الأكثر من تخصيص أعداد من دوريات الاتحاد لتشجيع الجرائم؟
ما هو الأكثر من فصل الزملاء الذين وقفوا مع الثورة؟
ما هو الأكثر من الفساد المالي والإداري المتراكم كل هذه السنوات؟
ما هو الأكثر من كون الاتحاد غطاء وأداة لأسوأ نظام مخابراتي عرفته البشرية؟
أما إرادة المجتمع السوري وما يريده من النقابات فهي في طور التولد والنقاش والتشكل، فمن جهة لا تقبل أخلاق المجتمع السوري مرور الجرائم من دون حساب، نظراً لِما يتمتع به هذا المجتمع من مرجعيات دينية وإنسانية راسخة، وفي الوقت نفسه يسعى لبناء دولة تليق به وبتاريخه.
السؤال الصعب السهل: كيف نوائم بين هذه الإرادات؟
من جهة القوة: لا شك حالياً أن السلطة المنتصرة هي الأقوى.
من المهم أن يكون الاتحاد مكافحاً للتحريض والكراهية وألا يكون جزءاً منهما، وأن يكون ضامناً لحرية التعبير ضمن إطار حقوق الإنسان، ومكاناً سورياً مفضَّلاً للتنوع الثقافي..
لكن يبدو أنها اختارت أسلوب الحوار والنقاش لإنضاج الخيار الأفضل بما يضمن سوريا مستدامة وليست سوريا انتقامية، وهذا يجعل مهمات القيادات المكلفة صعبة ومتشابكة وتحتاج إلى كثير من التوازن والحكمة والتقاطع مع التجارب العالمية في هذا السياق.
ويبقى السؤال مفتوحاً على الحوار: كيف نوائم بين الحاجات النقابية والثقافية في اتحد الكتاب العرب في سوريا؟
لا يوجد شخص واحد أو أكثر يمتلك الإجابة، بل نحن بحاجة إلى حوارات ونقاشات طويلة ومكثفة ومفصلة كي يتم الوصول إلى أكثر الرؤى قرباً من الإرادات التي أشرنا إليها أعلاه.
وبالتالي فإن النظام الداخلي الجديد والنواظم الإدارية تنبثق من الاستراتيجيات والرؤى التي تعبر عن سوريا الجديدة بحيث يكون اتحاد الكتاب العرب في سوريا مؤسسة ثقافية وطنية بمعايير إنسانية، ذات أبعاد نقابية.
على مستوى اللحظة السورية الراهنة: من المهم أن يكون الاتحاد مكافحاً للتحريض والكراهية وألا يكون جزءاً منهما، وأن يكون ضامناً لحرية التعبير ضمن إطار حقوق الإنسان، ومكاناً سورياً مفضَّلاً للتنوع الثقافي، أما نقابياً فمن المهم أن يكون شفافاً في إدارة موارده وآليات عضويته.
تلك تحدياتٌ كبيرة، أمام قيادته الحالية، التي من واجبها البحث عن حلول وتحقيق ما تستطيعه منها، وأن تكون واضحة مع السوريين فيما تمر فيه من مصاعب وتحديات ونجاحات وانكسارات!
المصدر: تلفزيون سوريا






