وهم الاندماج وتأجيل المواجهة.. هل تقودنا قسد إلى فاشر جديد؟

محمد خالد الرهاوي

لم تجد ميليشيات الدعم السريع (الجنجويد) بدّاً من الاندماج في الدولة السودانية بعد إسقاط نظام البشير، كما لم تجد ما تسمى بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) بعد إسقاط النظام البائد من خيار أمامها إلا توقيع اتفاق العاشر من مارس 2025 مع الرئيس أحمد الشرع للاندماج في الدولة السورية، وإذا كانت الأنظار الآن تترقب بحذرٍ مسارات تسوية محتملة في سوريا فإن ثمة مخاوف جدية من أن تكون قسد هي النسخة السورية من (الدعم السريع)، وأن يكون مصير دمشق أسوأ بكثير من مصير الخرطوم إذا ما اختارت طريق الإدماج الشكلي لا الفعلي التام، والمقدمات التي سبقت تمرد الدعم السريع تضع أمامنا درسا واضحا يجب ألا يمر من دون أن تلتقط منه دمشقُ العبر، والعاقل اللبيب من اتّعظ بغيره قبل أن يكون عبرة لغيره، وقد قالت العرب في أمثالها: “السعيد من وُعِظ بغيره”.
ولا سيما أن أوجه الشبه بين الميليشيتينِ وبين قائديْهما محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي وفرهاد شاهين المعروف بمظلوم عبدي كثيرةٌ جدا، ولعل من أبرزها:
أولا: شاكلة واحدة من الجرائم
استفاق العالم منذ يومين على تقارير وشهادات ومقاطع فيديو مروعة توثّق جرائم ميليشيات الدعم السريع في مدينة الفاشر السودانية بعد سيطرتها عليها، وما ارتكبته من قتل وسلب ونهب واغتصاب بحق المدنيين وغيره من فظائع يشكّل السمة المميزة لهذه الميليشيات التي تتجاوز القانون والأخلاق والقيم والأعراف لغياب المساءلة عنها غيابا تاما، ويذكِّرنا بما فعلته ميليشيات قسد من انتهاكات بحق المدنيين في مناطق سيطرتها في دير الزور والرقة والحسكة وحلب، وما زالت صور إجرامها بحق المدنيين والجيش الحر في تل رفعت وعرضها على الشاحنات حاضرةً في ذاكرة السوريين، وما وثّقته وتوثّقه التقارير يوميا من جرائم قتل واعتداء ومصادرة للممتلكات وسرقة لثروات البلاد وتجنيد للأطفال وفرض مناهج تعليمية لا تمت للعلم ولا لثقافة السوريين بصلة وغير ذلك مما يشير بوضوح إلى عقلية ميليشياوية واحدة لا تختلف في جوهرها بين السودان وسوريا، وربما يكون الفرق الوحيد في التوقيت والجغرافيا ليس غير، فالسجل الإجرامي لقسد يجعل من الصعب الوثوق بإدماجها في مؤسسة عسكرية وطنية من دون تفكيك كامل لبنيتها العسكرية والاستخباراتية والمدنية.
نجد أن قسد تتفوق في عمقها وامتدادها الإقليمي والدعم الخارجي على ميليشيا الدعم السريع، وهو ما يعزز من فرص تمردها.
ثانيا: وهم الإدماج
بعد إسقاط نظام البشير اتّخذ مجلس السيادة قرارا بإدماج ميليشيات الجنجويد (الدعم السريع) في الجيش السوداني، وكان هذا الإدماج شكليا -كما تطالب قسد الآن في سوريا- وسُمح لها بالاحتفاظ بكيانها العسكري والإداري المستقل تحت مظلة الدولة ومنحت قياداتها رُتبا عسكرية. وفي سوريا تشير الأنباء المتداولة حول اندماج قسد في الجيش السوري إلى أنه سيكون بثلاث فرق عسكرية لها استقلاليتها التامة في القيادة والقرار وسيمنح قادة قسد رتبا عسكرية رفيعة، وهو تكرار مخيف ومباشر للنموذج السوداني الفاشل وتأكيد على أن ضريبة المواجهة مع الميليشيات بعد انضمامها من دون تفكيك حقيقي لبنيتها العسكرية والأيديولوجية ستكون أكبر بكثير من المواجهة قبل الاندماج الشكلي الذي يمنحها غطاءً قانونيا ونفاذا استخباراتيا ولا يُغيّر من طبيعتها الميليشياوية المتأصلة فيها شيئا؛ لأن هذه الميليشيا عندما تتمرّد وهي جزء من المؤسسة الرسمية، تملك الشرعية (الممنوحة سابقا)، وأسرار الدولة، وتفاصيل البنية الدفاعية لها، ومواقع التمركز المتقدمة، الأمر الذي يحوّل المواجهة إلى حرب مدمرة على طول البلاد وعرضها بدلا من أن تكون عملية عسكرية محدودة في مناطق محدودة قبل إدماجها الشكلي.
ثالثا: معضلة القيادة
بعد إسقاط نظام البشير، مُنح حميدتي منصب نائب رئيس مجلس السيادة؛ أي أنه كان الرجل الثاني في الدولة السودانية والشريك الفعلي في السلطة الانتقالية، ومع ذلك انقلب على المؤسسة العسكرية وقاد تمردا دمويا رهيبا دمر السودان. ومن ثَمَّ فإن نموذج السودان هذا يطرح سؤالا مصيريا في الحالة السورية: إذا كان حميدتي الذي شغل هذا المنصب الرفيع قد تمرد وانقلب على الحكومة والدولة، فكيف سيكون الحال مع مظلوم عبدي الذي من غير المرجح أن يُمنح موقعا بهذا المستوى في هيكلية الدولة السورية؟
في حالة قسد، إذا لم تُمنح القيادات البارزة -وفي مقدمتها مظلوم عبدي- مراكز قوة توازي طموحهم السلطوي، فإن الميل إلى التمرّد والانقضاض على الدولة سيكون أقوى وأكثر حتمية حتى في حال منحهم مناصب رمزية أو إدارية في إطار الإدماج، فإن الحافز للانقلاب سيبقى قائماً ويزداد ويقوى؛ لأنهم سيشعرون بأنهم مُنحوا قليلا في حين يستحقون أكثر ولا سيما أن قيادة قسد الآن تتصرف وكأنها قيادة دولة مستقلة، وأن لها أيديولوجيا واضحة وطموحات انفصالية علنية صريحة.
رابعا: الامتداد الإقليمي والدعم الخارجي
من خلال المقارنة بين الميليشيتين، نجد أن قسد تتفوق في عمقها وامتدادها الإقليمي والدعم الخارجي على ميليشيا الدعم السريع، وهو ما يعزز من فرص تمردها:
الامتداد الإقليمي: ميليشيا الدعم السريع لها امتداد قبائلي في تشاد، وهو امتداد محدود من حيثُ التأثير العسكري المباشر. أما قسد فلها امتداد عميق ومتشابك في كردستان العراق وتركيا وإيران يوفر لها عمقا استراتيجيا وملاذا آمنا وخطوط إمداد لا يملكها حميدتي، فضلا عن أن قيادتها الفعلية والميدانية عسكريا وسياسيا هي قيادات تركية إيرانية (في إطار قيادات PKK)، وتأثيرها العسكري مباشر ولا سيما بعد انسحاب بعض عناصرها من تركيا مؤخرا وتوقف المعارك معها وتفرغها للساحة السورية المنهكة أصلا.
الدعم الخارجي: يتلقى حميدتي دعما خارجيا سريا وغير مُعلن من دول إقليمية ودولية، في حين تتلقى قسد دعما أميركيا علنيا ومباشرا (الأسلحة، التدريب، الغطاء الجوي). كما تتلقى دعما إسرائيليا شبه علني في إطار المصالح التقسيمية المشتركة، وهو ما يمنحها حصانة دولية دفعتها على المماطلة في تطبيق اتفاق العاشر من مارس وجعل من فكرة المواجهة معها على المستوى العسكري أمرا بالغ التعقيد بالنسبة للدولة السورية، بخلاف حالة حميدتي التي كانت مواجهته أقل تكلفة دوليا. إضافة إلى ذلك، هناك دعم متبادل لقسد من عصابات الهجري والفلول. صحيح أن هذين الأخيرين ليس لهما محل من الإعراب عسكريا، إلا أنهما كما يقول المثل العامي: “الطَّلقة التي لا تصيبك تدوشك”، يمكن أن يكونا خدماً لقسد في زعزعة الاستقرار الذي يشغل الدولة السورية ويغري قسد بالتمرد والانقلاب لاحقا.
إن فشل تجربة إدماج الميليشيات في السودان الشقيق يؤكد لنا أن أي إدماج لقوات قسد داخل المؤسسة العسكرية السورية من دون تفكيك كامل لبنيتها الأيديولوجية والعسكرية، ومن دون إخضاع أفرادها لمسار عدالة انتقالية حقيقية.
خامسا: القدرات العسكرية والاقتصادية والأيديولوجيا
في مقارنة أسباب التمرد والإغراءات التي تدفع نحو الانقلاب، نجد أن قسد لديها دوافع أكبر بكثير من الدعم السريع، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
القدرات العسكرية والبنية التحتية: لا يملك حميدتي أسلحة مثل أسلحة قسد المتقدمة، ولا أنفاقا تحت المدن مثل أنفاق قسد المعقدة في حلب والرقة والحسكة ولا مناطق حكم خاصة به، ومع ذلك انقلب على الحكومة وارتكب أبشع الجرائم ودمر السودان، فكيف يؤمن جانب قسد وهي التي تمتلك بنية دفاعية معقدة (الأنفاق) وأسلحة نوعية تعزز قدرتها على التمرّد وتجعل المواجهة معها لاحقا باهظة الثمن؟
الطموح المعلن والأيديولوجيا: كان حميدتي تاجرا للإبل ثم قائداً لميليشيا يبحث عن السلطة والمال من دون أيديولوجيا واضحة معلنة، بخلاف قسد التي لديها أيديولوجيا واضحة معلنة وطموحات انفصالية علنية تهدف إلى تأسيس كيان مستقل أو شبه مستقل ينتمي إلى الدولة السورية شكليا في ظل الظروف الحالية إلى حين تهيُّؤ الظروف المناسبة للانفصال، وهذا ما يزيد من حتمية التمرّد عندما تشعر بأن هذا الهدف مهدد.
المكاسب الاقتصادية: تسيطر قسد الآن على مناطق ثرية بالنفط والغاز والمياه، وعلى مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة وغير ذلك من موارد اقتصادية ومكاسب كبيرة يصعب على قسد التخلي عنها وتغريها بالانقضاض على الدولة السورية والسيطرة الكاملة على هذه الموارد التي هي أكبر وأكثر بكثير مما في السودان ويغري حميدتي.
إن أوجه الشبه بين ميليشيات الدعم السريع وقسد، وبين حميدتي ومظلوم عبدي، لا تخفى على ذي بصيرة ولا يمكن تجاوزها أو تجاهلها، وإن فشل تجربة إدماج الميليشيات في السودان الشقيق يؤكد لنا أن أي إدماج لقوات قسد داخل المؤسسة العسكرية السورية من دون تفكيك كامل لبنيتها الأيديولوجية والعسكرية، ومن دون إخضاع أفرادها لمسار عدالة انتقالية حقيقية، والسيطرة عليها تماما، سيحمل في طياته خطر الانقلاب والتمرد في أي لحظة، وعندئذٍ سنكون أمام نسخة سورية مكررة وأكثر دموية من التجربة السودانية، وسيكون إرهاب قسد وفظائعها التي ارتكبتها سابقا نقطة من بحر إجرامها آنذاك، وستتكفل بمهمة تدمير ما تبقى من الدولة السورية وتمزيقها إلى كانتونات طائفية وعرقية متصارعة، لهذا فإن التحدي الأكبر يكمن في تنفيذ عملية تذويب شاملة لتلك الميليشيات وتقتلعها من جذورها وليس في إدماجها إدماجا شكليا يمكن أن ينسف مكتسبات الثورة وإنجازاتها وتضحيات أبنائها في أي لحظة.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى