
مقال يوثّق الخلفية التاريخية والسياسية لتأسيس مؤسّسات الغد الأفضل، ويكشف كيف جرى تحويلها من مشروعٍ قوميٍّ ناصري أنشأه الاتحاد الاشتراكي العربي لخدمة البقاع والإنماء الوطني، إلى وقفٍ ذريٍّ خاصٍّ بعائلة عبد الرحيم مراد بعد التسعينات.
لم يأتِ ذكر مؤسّسات “الغد الأفضل” في مقالة الأستاذ أحمد ذبيان في موقع الأفضل نيوز على نحوٍ دقيق يعبّر عن حقيقتها ومسارها التاريخي. فقد أغفل المقال الدور الجوهري الذي لعبه الاتحاد الاشتراكي العربي – ممثّل المدرسة الناصرية في لبنان – في تأسيس تلك المؤسسات في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، وحوّل الرواية إلى سردٍ شخصيٍّ ينسب الفضل الكامل إلى الوزير والنائب السابق عبد الرحيم مراد، وهو ما يُعدّ تجاوزًا للوقائع التاريخية وتغييبًا لدور المناضلين الأوائل الذين حملوا الفكرة وغرسوها قبل أن تُقطف ثمارها بيد غيرهم.
من رحم الاتحاد الاشتراكي العربي
تأسس الاتحاد الاشتراكي العربي في لبنان سنة 1974 من مجموعة من الناصريين والشباب الطليعي الذين توزّعوا بين الجنوب وبيروت وطرابلس وإقليم الخروب والبقاع. وقد انعقد مؤتمر تأسيسي أفرز قيادة مركزية برئاسة الأخ عمر حرب الذي سُمّي أمين سرّ القيادة، وضمّت القيادة إلى جانبه الإخوة: خليل الخليل، علي الصميلي، سعيد أيوب، محمد سعيد، حسن صبرا، وأحمد قبيسي.
كان هدف الاتحاد بناء تنظيم قومي حديث يترجم مبادئ جمال عبد الناصر في الحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية، من خلال برامج تنموية وتربوية وثقافية ترفد الدولة والمجتمع بمشاريع نهوض حقيقية.
من الفكرة القومية إلى العمل التربوي
من رحم هذه الروح التأسيسية، وبدافعٍ من الحاجة إلى إنماء البقاع الغربي، بدأت قيادة الاتحاد الاشتراكي العربي تفكّر بإطلاق مشاريع تعليمية واجتماعية تخدم أبناء المنطقة.
في تلك المرحلة، لم يكن عبد الرحيم مراد في لبنان، بل كان في البرازيل مع إخوته. وبعد اكتمال الهيكل التنظيمي للاتحاد، كُلّف الأخ عمر حرب – بصفته أمين سر القيادة – بالتوجّه إلى البرازيل لإقناع مراد بالعودة إلى لبنان والمساهمة في المشروع الإنمائي – التربوي الذي كان الاتحاد بصدد إطلاقه بدعمٍ مباشر من الجماهيرية الليبية، ضمن رؤية ناصرية للتكامل العربي في التنمية والتعليم.
بعد جهود استمرّت نحو شهر، عاد عبد الرحيم مراد إلى لبنان بدعمٍ من الاتحاد وبضمانةٍ أن يحافظ على مستوى العيش الذي كان يتمتّع به في المهجر، فبدأت المشاريع الأولى التي مهّدت لاحقًا لمؤسّسات “الغد الأفضل”. كانت حينها مشاريع ناصريّة جماعية موّلتها ليبيا ونفّذها الاتحاد الاشتراكي العربي، وكان الهدف منها خدمة المجتمع البقاعي ورفع مستوى التعليم الوطني.
مؤتمر 1989 وبداية الاسم
إنّ تسمية “الغد الأفضل” لم تكن وليدة صدفة أو إلهام فردي كما يُروّج اليوم، بل جاءت بقرارٍ حزبي في مؤتمر عام 1989 حين اتخذت قيادة الاتحاد الاشتراكي العربي، برئاسة عمر حرب، قرارًا بترشيح عبد الرحيم مراد إلى الندوة النيابية، وكان شعار حملته الانتخابية في حينه “معًا نحو غدٍ أفضل”، إلى جانب شعار ثانٍ “معًا ضد الفساد”.
ومنذ تلك الحملة ترسّخت التسمية وأصبحت لاحقًا عنوانًا للمؤسسات التي أُقيمت تحت مظلة الحزب، قبل أن تُستثمر لاحقًا كمسمّى مستقلٍّ خارج الإطار التنظيمي.
بداية التحوّل والانفراد
مع بداية التسعينات، وبعد توقّف الدعم الليبي نتيجة المتغيّرات السياسية والعقوبات الدولية، بدأ عبد الرحيم مراد بالابتعاد عن الإطار الجماعي. استعان بالنظام الأمني السوري الذي كان يهيمن على لبنان، واستفاد من غطائه الأمني والسياسي ليُقصي تدريجيًا قيادات الاتحاد الاشتراكي العربي، واحدًا تلو الآخر، وعلى رأسهم الأخ عمر حرب.
استخدم الترهيب والضغوط لإفراغ الحزب من كوادره التاريخيين وتحويله إلى غطاءٍ شخصيٍّ لمشاريعه الخاصة.
وهكذا تحوّل المشروع من تجربةٍ قومية ناصرية جامعة إلى ملكية فردية تُدار وفق الولاء الشخصي لا وفق الانتماء الوطني أو الفكري.
من الاتحاد إلى الوقف الذري
بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري عام 2005، ومع تبدّل موازين القوى في لبنان، كرّس عبد الرحيم مراد سيطرته الكاملة على المؤسسات. فقام بتحويلها رسميًا إلى وقفٍ ذريٍّ باسمه ولورثته من بعده، متخليًا عن أي صلة تنظيمية أو فكرية تربطها بالاتحاد الاشتراكي العربي.
ومنذ ذلك الحين، استقوى مراد بما تبقّى من نفوذ النظام الأمني السابق، وبقوى الأمر الواقع المنتمية إلى فلول النظام السوري من أحزاب وسياسيين، الذين وفّروا له الغطاء لتكريس احتكاره للمؤسسات ومقدّرات الحزب. ثم سلّم إدارة هذا الإرث إلى ابنه حسن عبد الرحيم مراد، الذي تولّى الوزارة والنيابة، وورث معها كلّ ما بناه جيلٌ كامل من المناضلين القوميين بعرقهم وجهدهم.
الخاتمة: إنصاف للتاريخ ووفاء للروّاد
إنّ التاريخ لا يُكتب بالولاءات، بل بالوقائع. والإنصاف يفرض التذكير بأنّ الفضل في فكرة الإنماء والتربية والبناء المؤسّسي في البقاع الغربي يعود إلى قيادة الاتحاد الاشتراكي العربي، وإلى مناضلين أوفياء حملوا الفكرة القومية وأسسوا لها، وفي طليعتهم عمر حرب ورفاقه.
أما الحديث عن عبد الرحيم مراد باعتباره “المؤسس الأوحد”، فهو تزييفٌ للتاريخ ومسخٌ لتجربةٍ قوميةٍ رائدة، جرى تحويلها من مشروع وطني جماعي إلى إقطاعٍ سياسي – عائلي استثمر اسم الناصرية لتثبيت النفوذ لا لخدمة الناس.
إنّ مؤسّسات الغد الأفضل كانت يومًا رمزًا للعطاء القومي والتنمية الوطنية، قبل أن تتحوّل إلى عنوانٍ لتغوّل الفرد على الجماعة، ولاغتراب الفكرة عن أصلها.
المصدر: صفحة جمال حرب






