السودان مجدّداً ومؤقّتاً

حسام كنفاني

مرّة أخرى، يطل علينا السودان ليذكرنا بأن هناك قتلاً جماعيّاً يحصل بعيداً عن عدسات الكاميرات والاهتمامات الدبلوماسية. هذه ليست المرّة الأولى التي يصعد فيها الوضع في السودان إلى صدارة المشهد الإعلامي، فرغم أن الحرب والمجازر مستمرّة منذ سنوات، إلا أن لحظات مفصلية قليلة حصلت على الاهتمام من العالم، إن صحافياً أو سياسياً. لكن هذا الاهتمام لا يلبث أن يتراجع شيئاً فشيئاً حتى يغيب السودان عن الشاشات والأخبار، من دون أن يغيب القتل والتهجير عن أرض الواقع.
اليوم، الفاشر هي عنوان ما يحصل في السودان. قتل واغتصاب وتهجير وتجويع، أبطالُه مليشيا الدعم السريع التي بات معروفاً من يقف وراءها ويدعمها. وقبل ذلك، كانت هناك أم درمان والعبيدية وكسلا وود مدني وغيرها من مناطق شهدت انتهاكاتٍ كثيرة، مرتكبوها الأساسيون كانوا عناصر من “الدعم السريع”، من دون تبرئة أفراد الجيش من بعض الانتهاكات أيضاً. لكن ذلك كله لم يحظَ بالاهتمام الدولي، في ظل الانشغال العالمي كلياً بالعدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزّة، خصوصاً أن الحرب في السودان سبقت بداية العدوان على قطاع غزّة بأقل من ستة أشهر. ففي 15 إبريل/ نيسان عام 2023 كانت شرارة الاحتراب الأهلي بين الجيش و”الدعم السريع”، فيما كان 8 أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه بداية حرب الإبادة في غزّة التي لم تنته بعد، لتتوارى بعدها الأحداث في السودان عن الأنظار، وتبقى المجازر والمعاناة قائمة خلف أبواب مغلقة.
وحتى قبل العدوان على غزّة، لم يكن هناك اهتمام دولي وعربي كافٍ بالوضع في السودان، ولم تكن هناك محاولاتٌ جادّةٌ لوضع حدٍّ للحرب الأهلية هناك، فلا جولات مكوكية للدبلوماسيين العرب أو الغربيين، ولا مبادرات لإنهاء النزاع، بل تُرك الأمر على حاله، الذي اتضح لاحقاً أنه ساحة تقاتلٍ عربيٍّ عربيٍّ على أرض سودانية، على غرار كثير من مناطق النزاع العربية، مثل اليمن وليبيا.
قبل الفاشر اليوم، كان آخر ظهور حقيقي للسودان على مسرح الأحداث العالمية قبل نحو عامين، وفي ظرف مماثل لما هو قائم اليوم، حين ارتكبت قوات الدعم السريع مجازر وانتهاكاتٍ في منطقة ود مدني، في ديسمبر/ كانون الأول 2023. حينها، طفا الاهتمام بالسودان فترة وجيزة، قبل أن يندثر، ليعود ويظهر اليوم مع أحداث الفاشر. وللمفارقة، في الحالتين، لم يكن هذا الاهتمام يظهر إلا بعدما وثق مجرمو “الدعم السريع” انتهاكاتهم، التي جرى تداولها بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، ليلتفت إليها لاحقاً الإعلام العالمي.
توثّق مليشيات الدعم السريع انتهاكاتها، مدركةً أن لا أحد يلتفتُ إلى ما تفعله في الفترة الحالية، ولا أحد يهتم بمحاسبتها. مشاهد التنكيل بالمواطنين السودانيين تمرّ أمامك سريعاً، وحتى فيديوهات لعمليات اغتصاب وتعذيب نساء حتى الموت. وتُضاف إلى ذلك عمليات التهجير القسري التي يعاني منها المواطنون السودانيون، في غياب شبه كليٍّ للمساعدات العربية والدولية، فمشاهد السودانيين الذين يفترشون العراء باتت معتادة، لا منازل، ولا حتى خيام، فقط الالتحاف برمل الصحراء بانتظار ما تحمله لهم الأيام الآتية.
لم تلفت كل هذه المشاهد والانتهاكات بعد “رجل السلام”، الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ليخرج ويعلن نيته وقف هذه الحرب العبثية في السودان، رغم تشدّقه في كل ظهور إعلامي بأنه الرجل الذي سينهي الحروب في العالم. لا يزال السودان خارج جدول أعمال الرئيس الأميركي، الذي قد يكون مستفيداً، بشكل أو بآخر من عمليات نهب الذهب التي تقوم بها قوات الدعم السريع لحساب إحدى الدول العربية، التي باتت معروفة للقاصي والداني، من دون اتخاذ أي إجراءٍ ضدها.
قد يكون السودان عاد إلى الواجهة اليوم، لكن مؤقتاً، فلن تلبث هذه الانتهاكات أن تصبح روتيناً لا يستحق الاهتمام، إلى حين ظهور مجازر أخرى.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى