
شهدت مصر والسودان أخيراً فيضاناتٍ أدّت إلى تضرّر بعض الأراضي الزراعية والمساكن، بعد أن أطلقت إثيوبيا كمياتٍ هائلة من المياه من بحيرة سدّ النهضة والتي كانت ممتلئة (74 مليار متر مكعب) قبيل افتتاحه. لكن اللافت، إلى جانب ما يجب قوله عن مخاطر باتت ظاهرة، سواء فيضاناتٍ أو نقص مياه، سلوك أديس أبابا التي تجاوزت حدود اللامبالاة إلى مستوى العدوان، بإدارة غير مسؤولة لا تردعها الإدانة. ومع ذلك، ورغم احتمال ارتفاع منسوب المياه، لم يكن لدى الدولتين استعدادات كافية. والذي يُقال بشأن الحكومة المصرية أكبر، بحكم امتلاكها خبراتٍ ومؤسساتٍ وبنية تحتية تشمل السدّ العالي، والقناطر المنظمة للمياه، وافتراض لسيناريوهاتٍ محتملةٍ تعتمد على الرصد والتنبؤ. أما السودان، الذي يشهد صراعاً مسلّحاً على السلطة، وتمزّقاً إدارياً وسياسيّاً، فقد واجه الأزمة في ظل ضعف مؤسسي، وساهم قربه من السد، في تضرّر ما يزيد عن 125 ألف شخص، مع خسائر في البنية التحتية والمحاصيل في خمس ولايات، بينها ما يقارب ألفي فدّان في ولاية الجزيرة وحدها.
ومع القول إن الفيضان مصطنع، كما جاء في بيان وزارة الري المصرية، وربما لا يُرجع فقط إلى سوء إدارة أديس أبابا السد أو خبرتها المحدودة، فإن الاستجابة الرسمية لم تعالج المشكلة بشكل متناسب، بداية من الخطاب الموجّه إلى الجمهور والفلاحين، والذي بدا قاصراً ومتعالياً، مع غياب الجاهزية لإدارة أزمة متوقعة، مع تفريغ المياه وموسم الأمطار، والاستعداد لها مع بدء التشغيل، سواء أبلغت إثيوبيا أو استمرّت في تصرّفها الأحادي، ومع توفر التوقع، وتحذير رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، في مؤتمرٍ صحافي من أضرارٍ محتملة في محافظتين، وبيان صدر لاحقاً يشمل 15 محافظة، هي أغلب محافظات الوادي. وتبرز الأسئلة حول أسباب التراخي في اتخاذ الخطوات الاحترازية، كما التبكير بفتح بوابات السدّ العالي، أو تصريف المياه في مفيض توشكي، بما يحدّ من منسوبها في النيل، ويقلل حجم الخسائر.
كشف مشهد الفيضان عن اختبار حقيقي لمدى الاستعداد، ليس فقط على مستوى الإغاثة العاجلة، بل أيضاً في البحث عن حلول تمنع تكرار الأزمة
ويكشف المشهد من الأضرار التي لحقت بالمزارعين والسكان أن الخبرات والموارد لم تُترجم إلى سياساتٍ وقائيةٍ ناجزة، وتجلى ضعف الإدارة وسوء التقدير مقروناً بنزعة طبقية متعالية، تترك الفلاح وحيداً أمام فيضانٍ كان يمكن أن يسبب كوارث. إلى جانب ذلك، ساد خطابٌ متهافتٌ اعتمد التبرير والتهرّب من المسؤولية، إذ صوّرت التصريحات الرسمية المتضرّرين مخالفين ومعتدين على مجرى النهر، في تبرير وهروب من المسؤولية والدور أمام غرق أراض وحصار مئات الأسر في منازلهم، خصوصاً مناطق المنوفية (السادات، منوف، الشهداء، أشمون)، وهو ما يمثل تكراراً لتهديد سنوي من أغسطس/ آب إلى نوفمبر/ تشرين الثاني، لكن هذا العام كان أشد اتساعاً، حيث رصدت الأجهزة المحلية في المحافظة غرق ما يزيد عن 1400 فدّان في ثلاثة أيام، وحاولت المساعدة لكن من دون خطة مسبقة، أو توجهات عامة للحكومة، تمثل سندا حقيقيا، وهو ما يرتبط بتوصيف رسمي ظهر في بيانَ مجلس الوزراء ووزارة الري، اللذين اعتبرا الأهالي معتدين على حرم النهر ومخالفين قواعد الزراعة والبناء، بما في ذلك تعطيل تصريف المياه. ورغم أن هذا ليس دقيقاً، إذ يزرع الفلاحون أراضي طرح النهر منذ عشرات السنين، بعضها بعقود “حق انتفاع” إيجار رفعت قيمته تدريجيّاً خلال عقد، لكن الخطاب الرسمي يصوّر حال منازلهم اعتداء، ويضع السكان والمزارعين في موضع المتّهمين لا الضحايا، ما يعكس الضيق، ويبرّر التخلي، ويعكس رغبة في العقاب، كما توحي تصريحاتٌ رسميةٌ عن “إعادة حصر المخالفات”، والتي تقول بيانات حكومية إنها جاوزت 26 ألف فدّان، كما يشير انتقال أراضي طرح النهر من هيئة التعمير في وزارة الزراعة إلى وزارة الري، إلى رغبة ليس في إزالة المساكن وحسب، ولكن أيضاً تجريم الزراعة على أراضي طرح النهر، وهو نهجٌ يستند إلى العقاب، من دون مراعاة للبعد الاجتماعي، ويشبه إصدار تشريع يعاقب مزارعي الأرز بخمس سنوات سجن ضمن أساليب التكيف مع أزمة السد، والتي كانت نتائجها ارتفاعا في استيراد الأرز وتكلفة اقتصادية وتأثيرا على الأمن الغذائي.
ومع التسليم بوجود تعدّيات على النهر، خصوصاً في الأماكن الحضرية، لماذا يجري التركيز على الأراضي المزروعة، التي تؤجر بعضها الحكومة، وتدخل بعض القرى في زمامها ضمن برامج “حياة كريمة”، غير أن الاتهام بأن الزراعة في هذه الأراضي تعطل جريان النهر يجرّم المتضرّرين، وهم غالباً من صغار الفلاحين وفقرائهم، لا يملكون مدّخرات تعينهم على مواجهة الخسائر، ويواجهون أزمات معيشية فاقمها الغلاء وارتفاع أسعار السولار والمبيدات. وهذه حقائق كان ينبغي أن تدفع لوضع خطط للتعامل مع الأزمة على أنها قضية اجتماعية واقتصادية، فالأراضي التي تغمرها المياه بعد بناء السد الإثيوبي تحتاج إلى سياسات وقائية ورؤى عادلة، لا إلى إدانة المزارعين، واعتبار مشكلتهم شأنا خاصا بهم، وأن تشملهم خطط التكيف والمرونة لمواجهة تداعيات السد، والتي تجاوزت تكلفتها 50 مليار جنيه، لكن تلك الخطط، لم تعط اهتماما كافياً لناحية تأثيرها على فرص عمل الفلاحين، ومساعدتهم بنظم الري الحديثة، وتغيّر أنماط الزراعة والإرشاد الزراعي.
مع أزمة سد النهضة الإثيوبي، باتت محاصيل أراضي طرح النهر وفرص العمل في مصر مهدَّدة
وكشف مشهد الفيضان عن اختبار حقيقي لمدى الاستعداد، ليس فقط على مستوى الإغاثة العاجلة، بل أيضاً في البحث عن حلول تمنع تكرار الأزمة، والتي ظهرت بوادرها في سنوات سابقة، في مناطق كما ساحل سليم والبداري بأسيوط، واشتكى الأهالي مراراً من غرق أراضيهم من دون استجابة من وزارات الري والزراعة أو مجلس الوزراء، رغم تكرار تقديم الشكاوى، كما كان الموقف الرسمي خافتاً وعطّل أحياناً الدور الرقابي بشأن السد، وظلت تداعياته على الفلاحين طي الإهمال. وفي مركز أشمون بالمنوفية، بدا المشهد مؤسفاً؛ فالمياه حاصرت مزارعين تنقّلوا في مراكب بدائية، وبعض الأطفال فوق أكتاف آبائهم وأمهاتهم، والمنازل البسيطة والمحاصيل غمرتها المياه ويكاد صوت الأهالي لا يُسمع، الا مع استجابات مجتمعية، كما الهلال الأحمر، أو زيارة نواب حزب يستحوذ على الأغلبية، ليسجل حضوراً من دون موقف حقيقي أو مناقشة سابقة لمشكلاتهم في البرلمان، وأن ذلك كان متوقّعاً بحكم انتمائهم الطبقي، وإلى سلطة تخفي الإخفاق بأداة اتهام وتجريم المأزومين بدلاً من تقديم المساعدة، واكتفت قبله بالتحذير، وتنسى أو تتهرّب بمعنى أدقّ من مسؤوليتها، ليواجه الفلاحون المشكلة، وكأنها شأن خاص بهم، مع أن الدولة مسؤولة عن إدارة الملف، وأيضا سبل حل أزمة السد ومواجهتها وتداعياتها، وهي التي يدفع الفلاحون الثمن، سواء حدث نقصان في المياه أو فيضان، ويرتبط هذا السلوك الحكومي من التراخي بتهميش تاريخي للريف المصري، وظلم يلحق به، حيث ظل سنواتٍ خارج أولويات التنمية ومصيره الاستجابة الضعيفة والمتأخّرة حال الكوارث، وفى ذلك وقائع عدة، غير ضعف الخدمات، وتآكل دور الدولة في مساندة المشتغلين بالزراعة ومصادر رزقهم، ما يعمّق ظاهرة الفقر متعدّد الأبعاد، والذي يعيش 21% من المصريين تحت وطأته، أكثرهم من الريفيين، الأشدّ معاناةً بسبب ارتفاع مستويات الحرمان من فرص العمل والتعليم، وخدمات السكن اللائق وملكية سبل العيش، حسب تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
يبقى الريف الخاسر الأكبر، والفلاحون الحلقة الأضعف، في ظل سلطة تتباهى بالقوة والانضباط
مع أزمة سد النهضة الإثيوبي، باتت محاصيل أراضي طرح النهر وفرص العمل في مصر مهدَّدة، خصوصاً في موسم الأمطار، حيث تضرّرت محافظات البحيرة والمنيا وأسيوط من غمر آلاف الأفدنة بالمياه. ولم تقدّم الأجهزة المحلية تعويضات أو حصرًا دقيقًا للخسائر، وطُلب من المزارعين سداد الإيجارات، عدا عن ضغوط تتعلق بقروض مستلزمات الزراعة من البنوك، في وقت تتعرض محاصيلهم للغرق، ما يعني بالنهاية تقليص مساحات الزراعة وفتراتها لمئات آلاف المزارعين، ما يفاقم الهجرة من الريف إلى المدن، ويرفع نسب البطالة الريفية، ويزيد احتمالات الاضطرابات الاجتماعية. وليس غريباً أيضا أن يزيد الاندفاع نحو الهجرة غير الشرعية في ظل أزمة أوضاعهم المعيشية، والتي تشير إليها تقارير دولية، وتعتبر ضمن الآثار غير المباشرة لتضرّر سبل العيش.
ومن السهل أن تُحيل السلطة أزمة مواجهة تداعيات سد النهضة على إثيوبيا، بما في ذلك تضرّر أراضي طرح النهر، لكنها بذلك تتجاهل ضعف الجاهزية، وغياب خطط لإدارة المياه تراعي حماية سبل العيش، فتُجرّم الضحايا بدلاً من أن تدعم خططاً تراعي البعدين الاجتماعي والاقتصادي، وبينما أنفقت مليارات على مشروعات التحلية والصرف، تجاهلت صغار الفلاحين، وتركز في انحياز طبقي على مساندة كبار المستثمرين في المجال الزراعي، الأمر الذي يعني تحول كثير من العمالة الزراعية (ما يقارب ستة ملايين) إلى إجراءٍ في قطاع الزراعة والتشييد، وهي ضمن الاستثمارات الضخمة التي يسيطر عليها المقرّبون للسلطة.
إجمالا، كشف الفيضان بما حمله من مشاهد خوف وترقّب من فلاحين، ومواقف حكومية غير مناسبة بما فيها التهرّب من مسؤوليتها، عن واقع وجد الفلاح فيه نفسه بين سد إثيوبي قد يحجز كمياتٍ من المياه، ويغرق أحياناً أخرى أرضه، وحكومة تدينه أحياناً أو تتجاهل تداعيات السد عليه. وفي الحالتين، يبقى الريف الخاسر الأكبر، والفلاحون الحلقة الأضعف، في ظل سلطة تتباهى بالقوة والانضباط بينما تترك الناس يواجهون أزماتهم وحدهم، ويتحوّل الضحايا إلى متّهمين، في أزمة تكشف خللاً في توجهات السلطة، وغياباً للعدالة، ومنهج تعامل يلوّح بالعقاب وإدانة الطرف الأفقر والأضعف. هكذا يجد الفلاح نفسه بين سد إثيوبي يحجز مياه الري ويقللها، أو فيضان يغرق محصوله، وحكومة تتهرّب من مسؤوليتها، بل تدينه أحياناً. وفي الحالتين، الريف هو الخاسر الأكبر، والمزارع الحلقة الأضعف، ومشكلاته، في منظور كلي، سيتضرّر منها المجتمع بأسره.
المصدر: العربي الجديد