العشيرة بديلاً عن الدولة

عبد اللطيف السعدون

واقعة مثيرة لفتت انتباه مرتادي “السوشيال ميديا” بطلتها دبلوماسية عراقية اتهمت بسرقة “مناشف” من الفندق الذي أقامت فيه في أثناء زيارتها عمّان، وتحقيق وزارة الخارجية في الواقعة، لكن الأكثر لفتا للانتباه أن الدبلوماسية المذكورة بدلا من أن تلتزم بالسياقات الإدارية في ما تقول إنه “اتهام كاذب الهدف منه تسقيطها” استنجدت بعشيرتها كي تنتصر لها، وكان أن هبّ رجال العشيرة دعماً ومساندة، وهدّدوا في حال التعرّض لها بالتظاهر أمام مبنى وزارة الخارجية احتجاجا.

ليست هذه هي المرّة الأولى التي نسمع بها عن واقعة كهذه تكشف عن الدور الذي أضحت تلعبه “العشيرة” في عراق ما بعد الغزو الأميركي، وهو دورٌ يرتب كثيراً من الأكلاف السلبية على المجتمع، وعلى الهوية الوطنية، ويعرقل السير في طريق التحديث والعصرنة، وخصوصاً أن “العشائرية”، بمدلولاتها العملية، تسعى إلى إسقاط فرضية العيش المشترك بين أبناء الوطن، وتصدّع وحدة الشعب عبر اعتماد قسمته إلى وحدات صغيرة تتنازع ولا تتكامل، وهذا ما نتج عمليا من قسمة الشعب إلى طوائف ومذاهب، على النحو الذي يعاني منه العراقيون اليوم في ظل العملية السياسية المشبوهة التي اعتُمدت في العقدين الأخيرين.

ورغم أن الدستور العراقي الحالي الذي شرعنه الأميركيون يحمل عبارة غائمة عن “النهوض بالقبائل والعشائر والاهتمام بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون”، إلا أن ما حدث ويحدُث من ممارساتٍ على هذا الصعيد يعكس تمسّكاً بعاداتٍ وأعرافٍ سادت ثم بادت، يراد منها أن تضع مجتمعنا الذي أنهكته التراجعات على مفترق طريق يجري إلى الوراء مدى يصل الى أزيد من مائة عام، حتى إلى ما قبل صدور قانون دعاوى العشائر الذي أقرّ عند تأسيس الدولة في عشرينيات القرن الراحل، وهو القانون الذي نظم حدود سلطة الشيوخ في البتّ في القضايا المدنية والجنائية التي تخصّ أبناء عشائرهم، وأعطى العشيرة المساحة الاجتماعية المطلوبة آنذاك، وكان الهدف منه إيجاد حالة استقرار، وإدخال العشائر في نسيج الدولة الجديدة، خصوصاً وقد كان معظم السكان يرتبطون بصلات عشائرية وقبلية لا سبيل إلى تجاهلها دفعة واحدة، وقد خضع القانون عمليا لكثير من التطور حتى جرى إلغاؤه بعد 14 تموز/ يوليو (1958)، وانتقال مجموعات واسعة من أبناء الريف الى بغداد ومراكز المحافظات، مع ما يعنيه هذا من انقطاع صلتهم بعشائرهم، وتخليهم عن بعض ما كان يتعاملون من خلاله.

أصبحت العشيرة تمتلك ليس الأسلحة الخفيفة فحسب، إنما الأسلحة المتوسّطة والثقيلة أيضاً

وقد شهدت العهود الجمهورية اللاحقة تعاملا انتقائيا مع العشيرة حسبما يرتأيه الحاكم، وفي مرحلة من المراحل فُرضت عقوبات على من يحتكم خارج منظومة القضاء، أو من يدّعي بمطالبات عشائرية، إلا أن حالة التعبئة جرّاء نشوب الحرب العراقية الايرانية في ثمانينيات القرن فرضت استعادة العشيرة مكانتها التي كانت قد غادرتها، وحظي شيوخ العشائر، في حينه، بدعم من الحكومة التي أمدّتهم بالمال والسلاح، لكن ذلك لم يصل إلى حد تحكّم الشيوخ بأبناء عشائرهم خارج إطار القضاء أو بعيداً عن سلطة الدولة، إنما اقتصرت سلطتها الفعلية على تحشيد الناس، وتحفيزهم للدفاع عن الوطن الذي يواجه تحدّياً مصيرياً في ظل استمرار الحرب.

ازدادت الصورة قتامة بعد عام 2003، إذ تصاعد دور العشيرة على نحو أسوأ من السابق، وفي ظل انعدام الأمن وتراجع دور القضاء وتسيد المليشيات في الفضاء الاجتماعي، اضطرّ المواطن المغلوب على أمره للجوء الى العشيرة، كي يتقي الخطر، ويحصل على حقه، وبدأنا نسمع من جديد عن “الفصلية”، حيث تستخدم المرأة “دية” للصلح في نزاع بين عشيرتين، و”النهوة”، إذ تمنع العشيرة زواج ابنتها من شخصٍ غريب، وما إلى ذلك من ممارسات تدمر نسيج الأسرة والمجتمع معا، وتفقد الدولة هيبتها وقوتها.

أكثر من ذلك، أصبحت العشيرة تمتلك ليس الأسلحة الخفيفة فحسب، إنما الأسلحة المتوسّطة والثقيلة أيضاً، وهو أمر جعل منها، كما المليشيات، شريكة للدولة في امتلاك السلاح تستخدمه متى شاءت!. وهكذا تزايدت المخاوف من تغييب الهوية الوطنية، وإذكاء الاختلاف والتشرذم بين أبناء الوطن الواحد، ومن تراجع اجتماعي تحديثي قد يقود، في النهاية، إلى ما لا تحمد عقباه.

عند منعطفٍ كهذا يصبح انتماء الفرد إلى عشيرة بديلا عن انتمائه إلى دولة، ما يهدّد الدولة بالانهيار على النحو الذي قاله ابن خلدون.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى