
عملت العولمة على إنتاج مفهوم محدد للمجتمع المدني، مفهوم بعيد قدر المستطاع عن السياسة، فالمجتمع المدني وفق العولمة ينحصر في الجمعيات التطوعية، النسوية، منظمات حقوق الانسان، الاغاثة …الخ.. لكن المجتمع المدني في أصل المفهوم الديمقراطي يتضمن ممارسة السياسة كفعالية رئيسية، فالسياسة لا تصنع في المجتمع الديمقراطي ضمن نخب مغلقة، بل تصنع في المجتمع المدني بمشاركة المواطنين الأحرار، وعلى النخب الحاكمة ترجمة تلك السياسة بقوانين وبرامج سياسية واقتصادية متوافقة مع تلك التي يصنعها المجتمع المدني.
بإسقاط دور المجتمع المدني في السياسة تمكنت النخب المالية والاقتصادية السائدة في الغرب من إنتاج مجتمع ديمقراطي من حيث الشكل لكنه غير ديمقراطي من حيث المضمون، فالفرد العادي هناك يشعر أن القرار السياسي بعيد عنه والخيارات أمامه محدودة جدا، فعليه الانتظار من دورة انتخابية إلى دورة أخرى ليدلي بصوته إلى أحد الحزبين الديمقراطي أو الجمهوري كما في الولايات المتحدة، وفيما عدا ذلك النشاط اليتيم ليس له دور في تحديد التوجهات السياسية والاقتصادية الاستراتيجية أو المرحلية التكتيكية.
هذه ليست الديمقراطية التي ورثها الغرب عن اليونان، ففي اليونان كان على المواطن الحر المتمتع بصفة المواطنة أن يشارك في الاجتماعات الدورية لمجلس المدينة، ومشاركته جزء من ممارسته لمواطنته التي لا تكتمل بدون تلك المشاركة، وهناك في مجلس المدينة تتقرر السياسة في كل ما يتعلق بالسلم والحرب وبالقوانين والتعليمات التي تنظم حياة المجتمع.
صحيح أن المجتمعات تطورت كثيرا عبر التاريخ، ويصعب اليوم تصور تطبيق الديمقراطية اليونانية في مدن تضم الملايين، وفي مجتمعات يستهلك العمل معظم وقت المواطن ولا يترك له سوى القليل من الوقت لممارسة السياسة كما في المدينة اليونانية.
لكن ذلك ليس السبب الوحيد لعزل الجمهور عن السياسة وفصل المجتمع المدني عن النشاط السياسي بما في ذلك اعتبار الأحزاب السياسية خارجة عن مفهوم المجتمع المدني، فالسبب الأكثر أهمية يكمن في إعادة انتاج الديمقراطية بما يتفق مع مصالح الطبقات الحاكمة، وبالتالي جعل السياسة حكرا على فئات اجتماعية محدودة تمتلك مصادر الثروة في المجتمع.
هذه المقدمة مخصصة لأجل تكريس مفهوم المجتمع المدني الذي لا يضم فقط ما ذكرته سابقا من فعاليات اجتماعية كالجمعيات التطوعية والاغاثة والنسوية …الخ.. ولكن يضم أيضا الأحزاب السياسية والمنتديات الاجتماعية – السياسية الثقافية، ووسائل التواصل والاعلام المستقل بما في ذلك الصحافة والنشر.
وحين نبدأ بالتعرض للأحزاب كجزء عضوي من المجتمع المدني لابد من مراجعة مصطلح الحزب ودلالاته في الوعي الجمعي السوري من خلال تاريخ الأحزاب السورية وتكويناتها المتعددة. – يتبع