جيل زد والدولة الفلسطينية

ولاء سعيد السامرائي

بعد عامين على “7 أكتوبر” (2023)، ما يزال جيل Z يدهشنا يومياً، وفي كل مكان من أميركا إلى أوروبا وأستراليا وآسيا بتوسّع وتأثير تظاهراته ونشاطه والتزامه بمواصلة دعم الشعب الفلسطيني ورفض حرب الإبادة على غزّة. ومع استمرار الحرب الوحشية تطوّرت تظاهراته من الاحتجاجات التقليدية والخروج للتظاهر الواسع بداية الحرب إلى فعاليات متنوّعة ومبدعة يديرها شباب وطلاب جامعات الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وبالأخص منها تلك الجامعات التي تصنع نخب المستقبل والكوادر الحاكمة في هذه البلدان، من كولومبيا وبريستون إلى هارفارد وسينس بو. بذكاء وباختيار دقيق للحجج أمام القانون والمحاكم، فكك وأسقط جيل Z أساطير الكيان في المظلومية ومعاداة السامية المترسّخة في بعض الدول الغربية، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، وأصابها في مقتلة، لتطوى صفحة سردية أحادية مكبّلة استمرّت عقوداً من الابتزاز والسرقة والهيمنة على الوعي الغربي بعد الحرب العالمية الثانية. … برزت من جيل Z بالأخص أسماء فرنسية وأميركية وبريطانية وسويدية، أهمها تاكر كارلسون الصحافي المشهور الذي يتابعه الملايين، وكانديس أوينز زميلة كارلسون، والتي تحظى بجمهور واسع بالأخص بين قاعدة الرئيس ترامب MAGA والصحافية آنا كاسباريان، الأميركية من أصل أرمني التي تهاجم بحدّة مجرم الحرب نتنياهو وحكومته وتتهمها بالعنصرية، رفعت حرب غزّة الغشاوة عن عينيها، واستيقظت تتساءل عن معنى ما يقوم به هذا الكيان منذ عقود في بلدانها وفي فلسطين، وتحّرك بقوة وعي ملايين من المشاهدين الغربيين، وتعيد صياغة وعي جديد يرى حقيقة إجرام الكيان ووحشيته وحروبه كما تفعل غريتا ثونبرغ ناشطة المناخ المعروفة التي عادت من رحلة أسطول الصمود وفضحت ممارسات وإذلال الاحتلال وتعذيبهم فريق الأسطول في الإعلام الغربي.

يرفع اليوم جيل Z مطلب العدالة للشعب الفلسطيني واستعادة الحقوق كلها في أرضه ووطنه ودولته، ويطالب بمعاقبة دولة الاحتلال، وتنفيذ ملاحقات المحكمة الجنائية الدولية نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت، غير عابئ بالقمع، ولا بالتخويف والترهيب، لتصبح هذه المطالب في شبكات التواصل الاجتماعي على لسان المتظاهرين في العالم، يردّدونها في كل تظاهراتهم. ففي مدينة أودينو الإيطالية التي رفض فيها مشجّعو كرة القدم المنتفضون بقوة وصلت حد المواجهة مع قوات الشرطة الكثيرة التي تجمّعت لحماية منتخب الاحتلال استقبال بلدهم المنتخب الإسرائيلي في تصفيات كأس العالم لعام 2026، وعبّر المتظاهرون المحتجون عن رفضهم لعب الفريق الذي تقترف حكومته جرائم حرب وجرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية، وطالبوا حكومتهم بمقاطعته، كما فعلت بمقاطعة دول أخرى، مثل روسيا وألمانيا سابقاً، رافعين إعلام فلسطين ولافتات كثيرة دعماً للشعب الفلسطيني، مطالبين بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وربما يكون تصريح وزير الخارجية الإيطالي أخيراً برغبة بلاده في الاعتراف بالدولة الفلسطينية قد حصل بسبب الضغط الهائل الذي تقوم به التظاهرات المستمرّة والقوية في إيطاليا، وفي النرويج تزين الملعب الذي جرت فيه مباريات فريق دولة الاحتلال بشعارات دعم فلسطين، وغطّت أعلام فلسطين المدارج والأرض واقتحم مشجع نرويجي أرض الملعب، ليدور بقميصه الموسوم الحرية لغزّة. أما في ألمانيا التي تقمع فيها تظاهرات دعم الشعب الفلسطيني بشدة فقد خرج آلاف للمطالبة بمنع تصدير السلاح. وفي لندن، قام الطلاب بالاعتصام احتجاجاً على تعيين محاضر خدم في الجيش الصهيوني، واتهموا الإدارة بالتواطؤ في الإبادة الجماعية، رافعين شعار “وقف إطلاق النار اليوم والتحرير غداً”. وشهدت الولايات المتحدة أكثر من 2200 تظاهرة، توزّعت في كل المدن، ضمت سبعة ملايين متظاهر أميركي شّكل أكبر احتجاج شعبي ضد سياسة الرئيس دونالد ترامب تحت شعار “لا ملك”، رفع فيها المتظاهرون الأعلام الفلسطينية جنباً إلى جنب مع لافتات رفض النزعة الاستبدادية لإدارة ترامب المهّددة للقانون الأميركي وللدستور والحريات المدنية. وتستمر التظاهرات في فنلندا وفرنسا وعواصم ومدن أوروبية أخرى للمطالبة بمحاسبة الاحتلال على جرائمه التي لم تتوقف.

تستمر التظاهرات في فنلندا وفرنسا وعواصم ومدن أوروبية أخرى للمطالبة بمحاسبة الاحتلال الإسرائيلي على جرائمه التي لم تتوقف

وقد حذّر الرئيس الأميركي ترامب مجرم الحرب نتنياهو خلال انعقاد جلسات الهيئة العامة للأمم المتحدة نهاية الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) إن صورة كيانه في أسوأ أحوالها، وتتدهور بشكل كبير، وسيقوم بترميمها. ولم تكن هذه رسالة تحذيرية فقط، بل حملت معها رسالة مباشرة، هي أنك خسرت الحرب. لقد خسر نتنياهو الحرب أولاً أمام الشعب الفلسطيني، أمام أهل غزّة الصامدين المحتسبين الأبطال ومقاومتهم، وخسرها مرّة أخرى بفضل العالم المتضامن شبابه وجيله مع الحق الفلسطيني. ولذلك، كان أول عمل سارع إليه مجرم الحرب المحتقن والمرتجف من مشهد عزله في الأمم المتحدة، عقده لقاء مع 20 مؤثراً، ليتباحث معهم أمر إعادة تجميل صورة الكيان، واستعادة مكانته في المجتمع الأميركي، وربما تسبّب امتعاضُه من الاستقبال في ترك الميكرفون مفتوحاً، ليقول لهم إن الحل بشراء مؤثرين لهذا الغرض، وكرّر ذلك أكثر من مرّة. وقال “إننا ندفع سبعة آلاف دولار لكل تغريدة أو تعليق ينشره المؤثرون”، ليصبح كلامه هذا فضيحةً، سرعان ما تناقلتها قنوات العالم، واقتنصها المؤثرون الأميركيون والأوروبيون من تاكر كارلسون وكانديس أوينز وماكس بلومنثال وغيرهم، لتكون مادّة سبق صحافي مثيرة، ومكبّلة للملاحق من الجنائية الدولية هو وجيشه أمام ملايين المتابعين في العالم. ولم تقتصر الفضيحة على الولايات المتحدة، بل وصلت إلى فرنسا بهذه المناسبة، حيث كُشف في الإعلام عن تنسيق بين مديرة القسم السياسي للقناة الحكومية الثانية، ناتالي سان كريك، مع اللوبي الصهيوني للخط التحريري، ليكون في خدمة السردية الإسرائيلية، وليظهر علناً وليس كلام مؤامرة أن اللوبي أصبح المشرف العام على الخط التحريري لقنوات الإعلام المهيمن، عبر من يستخدمهم من الصحافيين، حتى أمسى هذا الإعلام صهيونياً أكثر من الإعلام الإسرائيلي نفسه.

لن يتراجع جيل Z ولن يتوقف، فكل الدلائل توضح اليوم أن الرأي العام العالمي تغيّر وبسرعة كبيرة، خصوصاً في أميركا

لن يتمكّن نتنياهو ولا كيانه ولا مؤثروه ولا حتى ترامب، وهو ما فهمته غالبية الدول الأوروبية منها بريطانيا وفرنسا وغيرها، من مواجهة مارد التضامن العالمي لجيل Z الذي يتّسع أكثر وأكثر، ويحشر كيان الاحتلال وكل الدول المتواطئة في حربه على الشعب الفلسطيني وغزّة في زاوية لا يمكن معها إلا الاعتراف بالدولة الفلسطينية التي هي حقٌّ لأصحاب الأرض وليست منةً من أيٍّ من هذه الدول. لذا تصر احتجاجات المتظاهرين على الانتهاء من هذا النظام، وعلى الحق الفلسطيني في أرضه ودولته، وعلى تنفيذ العقوبات بحقّ مجرمي الحرب. وقد أدّى هذا التضامن الذي عزل النظام العنصري الفاشي إلى كراهية متصاعدة للمستعمرين أينما ذهبوا، جعل الصحافي الإسرائيلي، جدعون ليفي، يكتب في صحيفة هآرتس: إننا أمة موبوءة جرباء، العالم يكرهنا بسبب ما قمنا به. إنه تضامن استثنائي وتاريخي لم يشهد العالم مثيلاً له، لا في حرب فيتنام ولا في مقاطعة نظام جنوب إفريقيا أيام حكم بريتوريا العنصري. لن يتراجع جيل Z ولن يتوقف، فكل الدلائل توضح اليوم أن الرأي العام العالمي تغيّر وبسرعة كبيرة، خصوصاً في أميركا، إذ تشير الاستطلاعات إلى تعاطف لشرائح الشباب في الولايات المتحدة مع الشعب الفلسطيني، وتراجع لصورة ما تسمّى الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهو ما انعكس إيجاباً على توجّهات المرشّحين للانتخابات في الولايات المتحدة، حيث يشاهد الأميركيون اليوم بعض نوابهم أو مرشّحيهم من الجمهوريين والديمقراطيين يعيدون صكوك الدعم المرسلة لهم من منظّمات اللوبي الصهيوني، كما فعل المرشّح لمجلس شيوخ ولاية ماساتشوستس، سيت ملتون، وتصرّح مرشّحة جمهورية علناً إنها تترشّح لخدمة بلدها، وليس لخدمة دولة أجنبية، وإنها ترفض الدعم الخارجي. … إنها بداية تدهور اللوبي في أميركا والعالم بفضل صمود الشعب الفلسطيني وغزّة العزّة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى