
إذا لم تُستعد الوطنية السورية بصيغة جديدة وشاملة، فستبقى سوريا مجموعة جزر مذهبية وعرقية.
في خضمّ المشهد السوري الممزق بالدم والانقسام، تغدو الأسئلة المتعلقة بالهوية والخطاب السياسي أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. وبينما تتصارع المكونات المختلفة بخطابات متشنجة ومتعالية، يبرز سؤال جوهري: لماذا يجب على الطائفة السنية، رغم الظلم الذي وقع عليها، أن تتبنى خطابًا عقلانيًا ووطنيًا؟ هذا السؤال لا يتعلق فقط بالسياسة، بل بعمق الرؤية التاريخية وبمسؤولية أخلاقية تجاه الوطن والمستقبل.
- الأغلبية ومسؤولية التاريخ
الطائفة السنية في سوريا ليست مجرد مكوّن عددي، بل كانت تاريخيًا العمود الفقري للمجتمع السوري، في المدن والريف، في التجارة والعلم والإدارة.
وبحكم هذا الثقل التاريخي، فإن أي موقف يصدر عنها يؤثر في التوازن الوطني برمّته. لذلك، تبني خطاب عقلاني ووطني لا يعني التخلي عن الحقوق، بل هو تحمل لمسؤولية القيادة الأخلاقية في مرحلة تتطلب من الجميع التعالي على الجراح.
حين ترفع الأغلبية راية الوطن والعقل، تفتح الباب أمام مشروع جامع، وحين تنجرّ إلى منطق الانفعال، تساهم – دون قصد – في تكريس التفكك الذي يُراد لسوريا أن تغرق فيه.
- الواقعية لا الانفعال
صحيح أن كثيرًا من الخطابات الصادرة عن مكونات أخرى تتسم بالتعالي أو التطرّف أو النزعة الانتقامية، لكن مجاراة الخطاب المتشنج لا تنتج إلا الفوضى.
الخطاب العقلاني ليس ضعفًا، بل حكمة في اختيار المعركة. فمن يملك مشروعًا وطنيًا واقعيًا متماسكًا، هو الأقدر على البقاء والتأثير، بينما تذوب الأصوات الصاخبة مع أول اختبار للواقع.
العقلانية هنا ليست ترفًا، بل أداة للبقاء السياسي والإنساني، في وجه منطق الإقصاء والتهميش.
- استعادة الوطنية لا إعادة إنتاج الطائفية
الوطنية السورية تآكلت تحت ضغط الحرب والطائفية والولاءات الخارجية. وإذا لم تُستعد هذه الوطنية بصيغة جديدة وشاملة، فستبقى سوريا مجموعة جزر مذهبية وعرقية.
تبنّي الطائفة السنية خطابًا وطنيًا جامعًا يعني أنها تعيد إنتاج فكرة سوريا للجميع – لا لسنة ضد علويين، ولا لعرب ضد أكراد، بل وطن يتسع لكل من يريد الحياة بكرامة وعدالة. وهذا الخطاب لا يلغِي الهويات الفرعية، بل يضعها في إطار مشروع وطني أعلى، يمنع استغلالها من الخارج.
- بين خطاب الكراهية ومشروع الوطن
من الملاحظ اليوم أن بعض الأصوات على مواقع التواصل الاجتماعي، ممن يُحسبون على أبناء الطائفة السنية أو ابناء “الثورة السورية”، يتبنون خطاب طائفي بغيض بحجة الدفاع عن الحكومة وعن مكتسبات الثورة السورية المجيدة، وبحجة أن هذه المكونات بدورها تُنتج خطابًا مشابهًا.
لكن هذا السلوك يقع في فخّ التعميم والانتقام، ويُناقض روح الثورة نفسها التي قامت من أجل الحرية والعدالة والمواطنة.
الأخطر من ذلك أن هذا الخطاب المتشنج، من حيث لا يدري أصحابه، لا يخدم السردية التي تبنّتها الحكومة السورية منذ البدايات، حين حاولت أن تُظهر نفسها كضامن للوحدة الوطنية في وجه من يروجون الخطاب الطائفي وينشرون الكراهية بين مكونات المجتمع السوري.
إن الاستمرار في نشر الكراهية الطائفية يمنح المتصيدين للفتنة حجة إضافية لتأكيد روايتهم، في حين أن المطلوب اليوم هو العكس تمامًا: الانتقال من ردود الأفعال إلى بناء مشروع وطني يعيد دمج المكونات السورية في هوية جامعة، تخرج الجميع من الانتماءات الضيقة نحو مفهوم المواطنة الكاملة.
بهذا المعنى، يصبح الخطاب الوطني العقلاني هو الفعل الثوري الحقيقي اليوم، لأنه يُحبط محاولات تقسيم المجتمع ويعيد للسوريين ثقتهم بأنفسهم وبوطنهم.
- من منطلق القيم الإسلامية والإنسانية
الإسلام، الذي يشكل الخلفية الثقافية لغالبية أبناء الطائفة السنية، ليس دين غضب وانتقام، بل دين عدل ورحمة وعقل. القرآن يدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة، لا إلى العصبية والتجييش. والنبي ﷺ أسس دولة المدينة على الميثاق والمواطنة، لا على التفوق الطائفي.
إذن، تبني خطاب عقلاني ووطني ليس خضوعًا، بل وفاء لجوهر الإسلام ذاته.
- من الوجع إلى الوعي
الظلم الذي تعرض له أبناء الطائفة السنية حقيقي، ولا يجوز التهوين منه. لكنّ الردّ العقلاني لا يعني النسيان، بل الارتقاء بالوجع إلى وعي. الانتقام لا يبني وطنًا، بل يورث جيلًا آخر من الكراهية. أما الوعي، فيحوّل الألم إلى قوة لبناء مستقبل مختلف.
شجاعة من نوع آخر
الطائفة السنية في سوريا اليوم أمام خيار تاريخي:
إما أن تنجرّ إلى منطق الغضب المتبادل، فتفقد بوصلتها ودورها، أو أن تتبنى مشروعًا عقلانيًا وطنيًا جامعًا، يعيد للسوريين الثقة ببعضهم، ويضع الأساس لسوريا جديدة، حرة، متصالحة مع نفسها.
إن العقلانية ليست ضعفًا، بل شجاعة من نوع آخر؛ شجاعة مواجهة الذات قبل مواجهة الآخر، وبناء المستقبل بدل اجترار الماضي.
المصدر: العربي القديم