
ما دفعني منذ أكثر من ثمانية أعوام إلى العمل الجاد على موضوع “المبادئ فوق الدستورية” (مواد دستورية محصّنة ضد التغيير) القناعة الراسخة بأن الصدوع التي أصابت الاجتماع الوطني السوري، بفعل نظام الطغمة البائد، أصبحت من العمق والخطورة إلى درجة أنه لم يعد بالإمكان معالجتها بالأدوات الطبيعية التي تُعالَج بها الخلافات بين الجماعات الوطنية، ولم يعد ثمّة ما يمكنه أن يعيد السوريين إلى بعضهم إلا وثيقة وطنية بمستوى مبادئ فوق دستورية، تُطمئِن الجميع إلى أن ما سيتم تضمينه في هذه الوثيقة سيكون محترماً في المستقبل من أي دستور ومن أي سلطة قادمة، بمعنى أنه لن يكون في وسع أي أغلبية برلمانية قادمة، مهما بلغت نسبتها، أن تلغي تلك القواعد أو تعدّلها.
بعد تسعة أشهر من التحرير، نجدنا في سورية، على صعيد الاجتماع الوطني، في وضع أسوأ مما كنّا عليه قبل التحرير، حيث الصدوع بين المكوّنات أصبحت أكثر عمقاً، والثقة بين بعضها وبين الأغلبية أصبحت شبه معدومة، والخوف والتوجّس من الآخرين ومن المستقبل أصبحا هما الموجِّهان، والعوامل الطاردة أقوى بكثير من العوامل الجاذبة… ونرانا مرّة أخرى، وأكثر من قبل، أمام فكرة الحاجة إلى الشيء الاستثنائي الكبير القادر على دفع السوريين باتجاه بعضهم، وهو المبادئ فوق الدستورية حصراً، فالحاجة إلى المبادئ فوق الدستورية، أي إلى ضماناتٍ قوية ومستقرّة بما فيه الكفاية، تصبح أكبر كلما تعمّقت أزمة الثقة بين الجماعات الوطنية، وارتفع منسوب الخوف والهواجس لديها، والأمران (الضمانات القوية وانعدام الثقة) على تناسب طردي، وبدون المخاوف لا حاجة للحديث عن ضمانات.
كالعادة، تُهاجم الفكرة وتُشيطن، جهلاً أو مصلحةً أو خبثاً.. فثمّة من لا يعرف ماهية المبادئ فوق الدستورية ووظيفتها، لكنه يكتفي بالعنوان الملتبس (فوق الدستورية) لفتح النار على الفكرة وعلى مروّجيها.. فكيف يكون هناك شيء فوق الدستور، وهو القانون الأسمى الذي يعكس العقد الاجتماعي وإرادة الشعب؟ وهل ثمّة إرادة تعلو على إرادة الشعب سوى إرادة الله؟
وثمّة من يعرف تلك المبادئ، وقد قرأ عنها، أو قرأها في دساتير مختلفة، ويعرف دورها الاستثنائي في حماية الدول الخارجة من مراحل مؤلمة خلَّفت جروحاً غائرة في الاجتماع الوطني (حروب أهلية، استبداد، استعمار…) لكن مصلحته الآن، ومصلحة جماعته الدينية أو العرقية، تقتضي تجاهل الموضوع، بل مهاجمته وشيطنته بكل الوسائل الممكنة. وهؤلاء، وغالبيتهم العظمى من الإسلاميين والعروبيين، لا يعلنون دوافعهم، بل يستغلون تلك الخاصرة الرخوة إياها، المفهومة شعبيّاً، أي الاعتداء المفترض لتلك المبادئ على الديمقراطية وعلى إرادة الشعب، وثمّة من يعرفونها، لكنهم يرونها وسيلة تستخدمها “الأقليات” بهدف الحد من قدرة وحقّ الأغلبية، العرب السنة، في الحكم.. وقد سمعتها صراحة في برلين، عقب محاضرة لي في الموضوع قدّمتها في مؤتمر “تجارب سورية الدستورية”، وتلقّيت إثرها كمّاً كبيراً من الاحتجاجات والانتقادات من بوابة الاعتداء على الديمقراطية وإرادة الأغلبية. فقد جاءني مدير المؤتمر في مساء ذلك اليوم، وقال لي إن خلفية تلك الاحتجاجات اعتقاد هؤلاء، ومعظمهم من الإسلاميين، أن هدفك من تسويق فكرة المبادئ فوق الدستورية تقييد حكم السنة العرب وإضعافهم في حال وصولهم إلى السلطة.
جميع السوريين بحاجة إلى طمأنة، أغلبيّاتهم مثل أقليّاتهم
الآن، ومع هذا المشهد الوطني الأشدّ بؤساً في تاريخنا، ومع اتساع الشروخ وانعدام الثقة بين الجماعات السورية، وذهاب بعضها بعيداً وعلناً في طلب الاستقلال، أرى ضرورة إحياء فكرة المبادئ فوق الدستورية ودعمها وتسويقها على نطاق واسع، لأنها الأداة الوحيدة القادرة على وقف هذا التدهور المتسارع، ووضع سورية على سكّة التعافي من جديد.
لا يتسع المقام هنا للتوسّع في شرح فكرة المبادئ، والمصادر متاحة لمن يرغب، لكني أودّ تأكيد ما أكتبه وأقوله دائماً، معتمداً على اطّلاعي الواسع على التجارب الدولية، أن المبادئ فوق الدستورية، إضافة إلى أنها الضمانة العليا، ومصدر الطمأنينة الأهم للجميع، أغلبيّة وأقليّات، هي، في الوقت نفسه، مصلحة خالصة لهم، وليس فيها أي انتقاصٍ من مبادئ الديمقراطية، ومن حقّ الأكثرية في الحكم، وليس من أغراضها الحدّ من صلاحيات الأغلبية في الحكم، إنما الهدف منها حصراً الحد من قدرة الأغلبية الحاكمة على الطغيان، ومن قدرتها على المساس بحقوقٍ أساسيةٍ وثابتةٍ من حقوق البشر، كالحرّيات العامة والخاصة.. وثمّة فرق كبير بين الحكم والطغيان، ولا أعتقد أن ثمّة عاقلين يختلفان على رفض الطغيان أنّى كان مصدرُه، حتى لو كان سلطة أغلب الشعب، فهل من الديمقراطية أن تقرّر أغلبية برلمانية تمثل 99% من الشعب، حرمان الـ 1% الباقين من بعض حقوقهم؟
لو استثنينا الطغاة أنفسهم، أو من يحملون طموح الطغيان.. فهل يجد “العربي السنّي” مثلاً مشكلة في قاعدة دستورية محصّنة ضد التغيير تنصّ على انتقال السلطة ولا تسمح للحاكم بتأبيد حكمه؟ وهل يجد مشكلةً في قاعدة من النوع نفسه (محصّنة) تضمن الفصل بين السلطات، وتمنع السلطة التنفيذية من التغوّل على باقي السلطات؟ وفي قاعدة أخرى، تمنع المساس بالحرّيات؟ وفي رابعة تضمن استقلال القضاء… وهل ثمّة ما يُطمئن “العربي السنّي” إلى حقه الدائم في الحكم وفي مؤسّسات الدولة أكثر من قواعد فوق دستورية تقطع الطريق على تسلّل استبدادٍ جديدٍ يعطّل الآليات الطبيعية لانتخاب الحكام والمسؤولين أو اختيارهم؟
المبادئ فوق الدستورية الأداة الوحيدة القادرة على وقف التدهور المتسارع، ووضع سورية على سكّة التعافي
في الواقع، جميع السوريين بحاجة إلى طمأنة، أغلبيّاتهم مثل أقليّاتهم، فالعربي يريد الاطمئنان إلى أن الكردي والدرزي لا يريدان الانفصال، ولا يريدان الاستقواء بالخارج على أبناء بلدهما، والسنّي يريد الاطمئنان إلى أن الآخرين ليس لديهم مواقف عدائية من الإسلام والمسلمين، ولا يعملون على إقصائهم عن الحكم وتهميشهم مرّة أخرى. والكردي يريد الاطمئنان إلى أنه سيكون مواطناً كامل المواطنة في دولته، وأن ثقافته وحرّياته ستكون دائماً موضع احترام، ولا يمكن لأحد الانتقاص منها مستقبلاً، وأن هامشاً واسعاً سيكون له في إدارة مناطقه واختيار ممثليه.
لسائلٍ أن يسأل، وهو محقّ: وما هو حظ فكرة من هذا النوع مع وجود سلطةٍ ترفض حتى فكرة المشاركة من أساسها؟ ولا تعترف إلا برؤيتها ونموذجها ورجالها؟… الجواب: نعم، هذا ما بدا عليه نهج السلطة منذ وصولها، لكن يُفترض أن قناعات السلطة بدأت تتغيّر بعد تسعة أشهر من الحكم، لم يحصل فيها إنجاز حقيقي، وحصلت فيها مجزرتان كبيرتان تركتا أثراً سلبيّاً كبيراً على الاجتماع الوطني، وعلى شعبية السلطة، وعلى المزاج الدولي. وربما أصبحت (السلطة) أكثر قرباً من الاعتراف بحقوق الآخرين، وقناعة بضرورة التفاهم معهم، وقناعة بفشل منطق القوة والإخضاع وخطورته.
أختم بأن المبادئ فوق الدستورية حلٌّ فعّال لما نحن فيه، بل أكاد أقول إنها “الحلّ”، لقدرتها الاستثنائية على طمأنة السوريين، ودفعهم إلى العودة إلى بعض، بعد هذه الرضوض الشديدة التي أصابت اجتماعهم الوطني. وأؤكّد أنها مصلحة خالصة للجميع، للأكثرية كما للأقليات، ومن مصلحة الجميع تفهّمها وقبولها والدفع باتجاهها، وليتنا نبدأ بفتح النقاش الواسع والمسؤول حولها.
المصدر: العربي الجديد
الدستور الدائم والمبادئ فوق الدستورية، يجب أن يدونها مجلس تأسيسي منتخب من الشعب مباشرة، وليس ضمن المحاصصات والإبتزاز لمجموعات دينية او طائفية أو عرقية ، لأنها ستكون الأداة المعيارية للحكم والسلطة، وأي إبتزاز للحصول على مبادئ فوق دستورية لأي طيف من المجتمع السوري يعتبر إنتهازية وسيؤدي لتدهور متسارع بالمجتوع السوري الموحد .