إشكالية الهوية في المغرب: التعريب والفرنسة والتمزيغ

عبد القادر الشاوي

لم يكن محمد عابد الجابري على صواب تام عندما كتب في 1973 عن التعريب في المغرب، ولم تكن القضية الأمازيغية بعدُ قد اكتست أي اعتبار مفهومي حتى بالنسبة إلى مثقفيها الرواد الذين التفوا حول جمعية التبادل الثقافي (1967). ولذلك طالب، في إطار مشروع تعليمي متكامل يقترحه لمغرب التحوّل الديمقراطي، بوجوب “إماتة” الفرنسية، ولو أنها لغة حضارة وثقافة، والأمازيغية معها (ثلاث لهجات أو دوارج محلية) والعربية الدارجة نفسها التي يتكلم بها عامة الناس. أما الاعتبارات التي قلّلت، كما أرى، من صواب الرأي، رغم أنه كان ذا نفحة تقدّمية قومية، فكامنة في أنه لم يصمُد طويلاً في وجه التطور التاريخي الذي تطوّرت فيه تلك “اللهجات”، وانتهى إليه منظور التعريب نفسه.

أول ما يلاحظ، بصورة عامة، أن المطالبة بالتعريب في مدى 50 سنة تقريباً، وفي بُعدٍ من المطالبة التشديد على اللغة العربية أساساً لِسْني وَعَقَدِي (لغة القرآن)، أصبحت، بصورة تدريجية، غريبة لم تعد تُرفع في أي برنامج إصلاحي ولا يسمع صوتها تقريباً، فلم تتمسّك بالتعريب، بصورة منظمة وإيديولوجية تعبوية تنهل من القومية والدين، إلا فئات حزبية تقليدية محدودة من المدافعين الخُلّص عن “الهوية العربية الإسلامية” المُنْدَمجة، الذين استوحوا “السلفية الجديدة” كما قعّدها علال الفاسي نظرياً وسياسياً، وجعلوها رافداً وطنياً، على نحو ما كانت عليه في أواسط القرن العشرين، لمقاومة الحماية والبعث الإسلامي وإحياء اللغة العربية والمطالبة بالاستقلال، ولو بعد فترة، في الوقت نفسه. إلا أن تلك الفئات التقليدية سرعان ما تصالحت مع الوضع القائم على إثر الفشل الذي مُنيت به في تحقيق الإصلاح ومقاومة الاستبداد المطلق، فاندمجت تلقائياً في الاختيار الفرانكفوني العام بالصيغة البراغماتية التي أوْجَبَها الوضع السياسي المتحوّل في البلاد على إثر تدشين ما سمي “المسلسل الديمقراطي” (1975)، وعودة الحياة النيابية نسبياً، بعد انقطاعٍ سنوات، إلى “المجال الشرعي” الرسمي الذي يرعاه النظام السياسي ويتحكم في اختياراته.

المطالبة بالتعريب في مدى 50 سنة تقريباً، أصبحت، بصورة تدريجية، غريبة لم تعد تُرفع في أي برنامج إصلاحي

من أقوى التعبيرات المجسّدة للتخلي عن المطالبة بالتعريب، بالمعنى الذي قاله الجابري، أن التعليم في المغرب أصبح، منذ 1965، حقل تجارب لكثير من السياسات المتناقضة والتنظيمات المستنسخة التي أغرقته في ما يمكن نعته بـ”الإصلاح المستحيل”، الذي كان يُراد به الإفساد المؤكّد والتخلي المدروس عن الاختيارات الوطنية الإصلاحية، وخصوصاً عندما حوّلته هذه الاختيارات، في مراحل كثيرة من تقاطب الصراع بين السلطة والمعارضة، إلى ساحةٍ تُقَادُ فيها المظاهرات الطلابية والنقابية والسياسية، وتُطْرَحُ فيها، بالشعارات الراديكالية المناسبة أحياناً، أقوى المطالب التي تؤجّج الوضع السياسي نفسه، كذلك تثير لدى الفئات الاجتماعية المتضررة من الهيمنة اللغوية الفرنسية شعوراً عاماً بالسيطرة الأجنبية وبطبيعة الاستغلال الذي تمارسه هذه السيطرة، وهي فرنسية بالأساس، على الصعيد الاقتصادي.

ومن هذه الزاوية، يمكن النظر إلى المطالبة بالتعريب بوصفه برنامجاً لغوياً أيضاً، ذا منزع تحريري، للتخلص من الهيمنة التي كانت للحماية الفرنسية على مقاليد الحكم والحياة السياسية والاقتصادية في البلاد، وهي التي أيضاً طبعت المسار العام للتاريخ المغربي الحديث في علاقة بالغرب من زاوية المثاقفة والإنتاج الثقافي والفكري والتأثير اللغوي الشامل. كذلك يمكن النظر أيضاً إلى فشل المطالبة بالتعريب بوصفه انقلاباً على الأماني التي عبرت عنها “الحركة الوطنية” منذ بداية نشاطها السياسي في الثلاثينيات ضمن الانقلاب الشامل الذي أطبَقَ وطبَّقَتْه “حالة الاستثناء” في البلاد، وكان من نتائجه أنه رَكَّز السلطة المستبدة المطلقة ونَظَّم، بصورة جوهرية، تلك الاختيارات الاقتصادية والسياسية، والثقافية كذلك، التي سعت، في إطار ما سمي اقتصادياً “المغربة” (1974)، للاستحواذ الشامل، بطريقة مختلفة، بحكم الانقلابات العامة التي تحققت للنظام الدولي في إطار العولمة الشاملة، على مختلف المَقْدُورات ذات الطبيعة المستقلة التي تطوّرت في البلاد في خضم النضال الشعبي ضد الهيمنة الرسمية المطلقة وسطوتها الاستبدادية.

إن مقاومة التعريب، لأنه كان مرفوعاً في وجه الفرنسة الشاملة، أضحت رديفاً إيديولوجياً وسياسياً فعليا للحط من قيمة اللغة العربية

يمكن القول، في هذا الإطار، إن مقاومة التعريب، لأنه كان مرفوعاً في وجه الفرنسة الشاملة، أضحت رديفاً إيديولوجياً وسياسياً فعليا للحط من قيمة اللغة العربية (صارت تُدْعَى كلاسيكية، رغم التنصيص عليها في الدستور منذ 1962)، فتقلص دورها في التواصل، وأمست الكتابة بها، بصرف النظر عن القيمة الإبداعية لكتابها، مدعاةً للاحتقار والانتقاص المحمول على نرجسيّة تتغنى بالفرنسة والتجديد والعصرية والمثاقفة وما شابه. وهذا كله في محيطٍ تتعاظم فيه باستمرار ثلاثة مواقف متصادمة: واحد يعتبرها متجاوزة بسبب الجمود الذي خيّم عليها نتيجة لتخلفها عن مسايرة التطور التقني والعلمي والتكنولوجي الذي أصبح الصيغة المثلى، بما في ذلك على مستوى الشعار، للتطور وللنمو بغية تحقيق الازدهار والرقي واللحاق بالأمم السائرة في طريق النمو. والثاني بسبب السيطرة المطلقة للغة الفرنسية في مختلف مجالات الحياة والمعاملات وفي الإدارة العامة والخاصة للمؤسسات وللوزارات وعلى الصعيد الدبلوماسي إلخ، بوصفها لغة التداول والمراسلة والتخاطب والصفقات التجارية وغير التجارية والمخابرات، وهي في الآن نفسه، من خلال الشعور بالأهمية والقيمة الرمزية اللصيقة بالنموذج البرّاق المؤثر، لغة المستعمر القديم (وفي ثوبه الجديد) باني مقومات المغرب (الحديث) على أسس رأسمالية تبعية، وهي أيضاً لغة النخب المغربية الرسمية والوطنية التي أهلتها، في سياق التطور العام وبناءً على جدوى المصالح الفئوية الخاصة، لاحتلال مختلف المواقع الاقتصادية والتجارية والإدارية وفي تسيير شؤون الدولة والسيطرة والتحكم والاستغلال بشكل عام. والثالث في نتيجة منطقية لطبيعة اللغة نفسها من حيث التركيب والنحو والصرف، أي لغة مكتوبة ذات طبيعة عالمة في كل ما تنتجه من حيث الكفاية، مقارنة لها بغيرها في سوق اللغات، والأجنبية منها بخاصة، التي لها، على الصعيد المحلي، مواقع اقتصادية وثقافية تاريخية بارزة ومهمة ترشحها، على قاعدة تنافسية في علاقة بالعلوم والتطور العام، للقيام بالأدوار المطلوبة في نطاق العولمة الشاملة التي ترهن المجالات المتصلة كافة، أو المرتبطة، بها بالمصالح الكبرى التي تتوخاها من السيطرة الاقتصادية والتجارية الشاملة على الصعيد العالمي.

أما الأمازيغية التي اعتبرها محمد عابد الجابري قبل 50 سنة “لهجة”، وهي ثلاث (تَرِيفِيتْ، تمَازيغت، تَشِلْحِيت) يتكلّم بها قسم كبير من المغاربة في ثلاث مناطق جغرافية متباعدة نسبياً، وتتميز، باعتبارها “لهجة” في حد ذاتها، بالاختلاف النسبي في مفرداتها وقواعدها الصوتية والنحوية (رغم انتمائها إلى عائلة لغوية واحدة) فقد انتقلت، بفعل النضالات المدنية التي خاضها النشطاء الأمازيغيون، على اختلاف توجهاتهم وجمعياتهم طوال عقود، من المطالبة بالحقوق اللغوية والثقافية، بناءً على التصوّر الهوياتي المختلف (عن العروبة والعربية والقومية العربية)، إلى تكوين رأي عام لعبت فيه بعض الأحزاب التقدمية دوراً مهماً في التطورات اللاحقة التي بَلْوَرَت حولها ما يمكن وصفه بـ”الذهنية الأمازيغية” التي ازدهرت فيها، وفي بعض جوانب هذا الازدهار ملامح ثقافية ذات أبعاد عنصرية ترافقت مع عشرية الأمم المتحدة حول الشعوب الأصلية، شعارات ثقافية وسياسية وتاريخية متنوعة، ربما كان الهدف منها العمل على استكمال جوانب من “الهوية الإثنية” المبنيّة على أسس ثقافية واجتماعية تتقاطع مع الجغرافيا والدين، إلخ، وهي الراسخة في التراب المغربي منذ حقب بعيدة، ولعلها طُمست منذ القدم بسبب عوامل مختلفة.

جاء دستور 2011 في حمى هبّاتِ “الربيع العربي”، فَحَوَّل الأمازيغية إلى لغة رسمية معبّرة عن هوية مختلفة قوامها اللغة (تيفيناغ) والثقافة (تاريخ تَمَازْغَا)

جاء دستور 2011 في حمى هبّاتِ “الربيع العربي”، فَحَوَّل الأمازيغية، بعد تقاربات وإشارات اندرجت في السياسة العامة من حيث يسَّرت انتقال الملك، بناءً على “البَيْعَة”، إلى لغة رسمية معبّرة عن هوية مختلفة قوامها اللغة (تيفيناغ) والثقافة (تاريخ تَمَازْغَا)، لها ما يتطلبه البحث في سبيل نشرها وتعميمها رسمياً، متوجة بذلك مسيراً معقداً احتَشَدَت فيه مبرّرات شتى رُوعِيت فيها “طبيعة” التجربة المغربية في التغلب على المشكلات العويصة التي يبلورها التطوّر، أو يفرضها النضال، أي من خلال المساومة والتسليم بالأمر الواقع الذي يعني، في جوانب منه، الإقرار بحقائق الاختلاف بغية صوغ الاندماج (يمكن تأويله استدماجاً من الناحية النفسية أو أسلوب تدجين بالمنطق السياسي). أما العربية الدارجة، فقد تحوّلت، وأساساً من خلال اعتماد المصطلح اللساني المغشوش الذي يضفي “المعيارية” على العربية (Standardisation)، إلى “لغة” شاملة أقيمت حولها مناظرات، وأنجزت بها بعض الأطاريح، وظهر بها مبدعون في ساحة الأدب (الشعبي) من خلال الزجل (الشعر العامي) والقصة والحكاية وسواها، وربما كان الأهم من ذلك كله أنْ صدر حولها مُعْجَمٌ حديث، جَرْياً على العادة التي اتبعها بعض الفرنسيين العاملين في جهاز الحماية في التأليف لغير الناطقين بها، يسهل اعتمادها في فنون وأغراض مختلفة.

النتيجة النهائية لهذه التحولات أن المغرب على مستوى التعدّد اللساني أصبح أمام حقيقة كبرى: كيف يمكن صناعة “الوحدة الوطنية” والمذهبية التي يتغنّى بها الطامحون لبناء المجتمع الديمقراطي ودولة المؤسّسات اعتماداً على هويات متصادمة لها اختيارات متناقضة وخطابات تنبني على لغات مختلفة؟ بعبارة أخرى، ولو أنها إشكالية قديمة: بالديمقراطية الرشيدة عبر الإقرار بالتنوع والاختلاف في تساوق مع بناء دولة المؤسسات، أم بالاستبداد الذي يفرض التحكم والدَّمْج، حسب الظروف وطبائع الأمور، وليس له من أداة فعلية إلا القمع وفيه المصادرة؟

المصدر: العربي الجديد

تعليق واحد

  1. المغرب العربي وقف بوجه الفرنسة من خلال التعريب ، فكانت مقاومة التعريب، أضحت رديفاً إيديولوجياً وسياسياً فعليا للحط من قيمة اللغة العربية، بإعتبارها غير ملائمة للعصر ، ولكن لماذا لم توقف الأمازيغية أمام التعريب؟ المغرب العربي وجهود صهيونية لعزله عن محيطه العربي بصراعات إقليمية مع جيرانه، فهل تنتصر العروبة؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى