
منذ تأسيسه سنة 1946، شكّل الاتحاد العام التونسي للشغل أحد الأعمدة الأساسية للحياة السياسية والاجتماعية في تونس. لم يكن مجرّد منظمة نقابية للدفاع عن حقوق الشغّيلة، بل تحوّل إلى فاعل وطني وازن لعب أدواراً مفصلية في محطّات فارقة من تاريخ البلاد، بدءاً من مقاومة الاستعمار، مروراً بمرحلة بناء الدولة الوطنية، وصولاً إلى ثورة 2011 وما تلاها من انتقال ديمقراطي متعثّر، فقد ظلّ الاتحاد عقوداً صانعاً للتوازن بين النظام الحاكم ومكوّنات المجتمع المدني على نحو جعله حامياً للسلم الاجتماعي، وفاعلاً قادراً على التأثير في السياسات العامة، بما يتجاوز دوره النقابي التقليدي. تغيّر الأمر بعد حركة 25 يوليو (2021)، وقيام نظام رئاسي مطلق في البلاد بقيادة قيس سعيّد. تراجع دور المنظمة النقابية في صناعة القرار، وغدت تواجه، بحسب مراقبين، أزمة مركّبة غير مسبوقة، تهدّد مكانتها التاريخية ودورها المحوري في الحياة الوطنية.
ليست الأزمة التي يعيشها الاتحاد بعد “25 يوليو” أحادية البعد، بل تتداخل فيها عوامل ذاتية وموضوعية. فمن جهة، تعاني المنظمّة النقابية من مشكلات تنظيمية متراكمة، مثل البيروقراطية، وضمور الشفافية، والديمقراطية الداخلية. ومن جهة أخرى، تُواجه منظومة حاكمة جديدة تَروم تهميشها وإضعاف حضورها، سواء عبر استهداف قياداتها أو تقليص دورها في التفاوض وصنع القرار. وبين هذين البعدين، وجد الاتحاد نفسه في وضع صعب: قواعد نقابية متذمّرة تبحث عن وضوح واستقلالية، وسلطة تسعى إلى تحجيمه، ومشهد اجتماعي مأزوم ينتظر منه المبادرة، وتحسين أوضاعه الاجتماعية والحقوقية.
ولعل المقارنة التاريخية تساعد على إدراك تراجع دور الاتحاد في صناعة القرار والتأثير في السياسات العامة، فخلال مرحلة الانتقال الديمقراطي، كان الاتحاد العام التونسي للشغل يساهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تشكيل الحكومات المتعاقبة، وكانت له اليد الطولى في تعيين وزراء الشؤون الاجتماعية، والتشغيل، والتربية، والتعليم العالي، وغيرهم، وتولّى قيادة حراك احتجاجي ـ مطلبي مكثّف ضدّ الحكومات الائتلافية بقيادة حركة النهضة. وفي خريف 2013، كان الاتحاد اللاعب الأبرز في مبادرة الحوار الوطني التي جنّبت تونس الانزلاق إلى العنف، وحصل بفضلها على جائزة نوبل للسلام. اختلفت الصورة بعد 25 يوليو/ تموز 2021 جذريّاً: لم يعد الاتحاد شريكاً في رسم مستقبل البلاد، بل صار يُنظر إليه باعتباره هيكلاً مُربكاً، أو غير ضروري، وجرى تهميشه سياسيّاً وإعلاميّاً. وتحوّل من فاعل استراتيجي إلى طرف يعاني من عزلة نسبية، في ظرفٍ كان يتوقع منه فيه أن يكون أكثر حضوراً ونفوذاً.
يواجه اتحاد الشغل منظومة حاكمة جديدة تَروم تهميشه وإضعاف حضوره
ساهم غموض خطاب الاتحاد، الذي تراوح بين النقد الحذر والتأييد المشروط للرئيس قيس سعيّد، في إضعاف صورته أمام الرأي العام، إذ بدا كأنه غير قادر على اتخاذ موقفٍ حاسم ينسجم مع تاريخه، باعتباره قوة تمثيلية مدافعة عن حقوق التونسيين عموماً، وعن الحرّيات الأساسية خصوصاً. كما تردّد الاتحاد في تحديد موقفه تجاه المعارضة السياسية، إذ تجنّب الانحياز المباشر إلى القوى التي اعتبرت ما حصل يوم 25 يوليو 2021 انقلاباً، وفضّل الخطاب الملتبس القائم على النقد الحذر من دون القطيعة التامة مع السلطة الحاكمة. عزّز هذا الموقف الانطباع بأن الاتحاد يتصرّف بمنطق حسابي يوازن بين الخوف من الاستهداف المباشر وفقدان امتيازاته، وبين إدراكه احتمال تراجع شعبيته إذا ساند مساراً غير ديمقراطي. وإلى ذلك، أحجم الاتحاد عن ممارسة النقد الذاتي الجدّي لأدائه خلال عشرية الانتقال الديمقراطي، متجاهلاً الاتهامات الموجّهة إليه بشأن مساهمته في تكريس منطق المحاصصة، أو تعطيل بعض الإصلاحات، أو لعب دور مزدوج بين النقابي والسياسي. هذا الغياب للنقد الذاتي جعل صورته أكثر هشاشة، وأفقده فرصة لتعزيز حضوره داخل الشارع التونسي.
وعلى صعيد متّصل، تعاني البنية التنظيمية للمنظّمة النقابية من جمود واضح، وهيمنة مركزية مفرطة تهمّش دور المرأة والشباب في الهياكل القيادية المركزية والجهوية والقطاعية. كما تكرّرت الانتقادات بشأن محدودية الديمقراطية الداخلية في صُلْب الاتحاد، حيث يُعاد إنتاج القيادات نفسها من دون تجديد فعلي للنخب النقابية. إلى ذلك، أثار الحديث عن شبهات فساد وامتيازات لوُجوهٍ في اتحاد الشغل استياءً واسعاً لدى حاضنته الشعبية، خصوصاً في غياب الشفافية وضعف آليات المساءلة. أحدثت هذه العوامل مجتمعة فجوة متنامية بين القيادة والقاعدة الشعبية، وأضعفت الحيوية النقابية التي ميّزت الاتحاد عقوداً.
على مستوى آخر، واجه الاتحاد تضييقات متزايدة من المنظومة الحاكمة، شملت منع إضرابات، أو استدعاء نقابيين للتحقيق، أو حتى إيقافهم على ذمّة تتبّعات قضائية. كما ساهم خطاب أنصار الرئيس، وخصوم الاتحاد، والتجييش الإعلامي في تشويه صورة العمل النقابي، باتهامه بتعطيل الاقتصاد أو خدمة مصالح ضيقة. وأضعف هذا الاستهداف الممنهج القدرة التفاوضية للاتحاد، وقلّص من فعاليته باعتباره حامياً للمصالح المهنية للشغيلة.
يحتاج الاتحاد إلى ممارسة نقده الذاتي لأدائه قبْل الثورة وبعدها، وبلورة بدائل اقتصادية واجتماعية واقعية
ويمثل الشق الاقتصادي بُعداً آخر للأزمة، فقد اصطدم الاتحاد بشكل مباشر مع منظومة 25 يوليو في قضايا كبرى، مثل سياسات التقشف، ورفع الدعم، وتجميد الأجور، وإصلاح المؤسّسات العمومية. فقد رأت الحكومات التي عيّنها سعيّد هذه الإجراءات ضرورية لإنقاذ المالية العمومية، بينما اعتبرها الاتحاد تهديداً مباشراً لمكتسبات الطبقة العاملة وضرباً لمبدأ الدولة الاجتماعية. ومع غياب الحوار الاجتماعي الحقيقي، دخل الطرفان في مواجهة مفتوحة، عبّر عنها الاتحاد عبر بعض الإضرابات والتحرّكات الاحتجاجية، فيما ردّت السلطة بالاتهام والتشكيك، وهو ما كشف عمق الهوّة بينهما. وكان لهذه السياسات أثر بالغ بالحياة اليومية للتونسيين: ارتفاع الأسعار، وتراجع القدرة الشرائية، وتنامي الإحباط الاجتماعي، وكلها عناصر جعلت الاتحاد في موقع اختبارٍ صعبٍ بين الدفاع عن القواعد، ومحاولة تجنب الصدام المفتوح مع السلطة الحاكمة.
انعكست هذه الأزمات على قدرة الاتحاد على التعبئة، فقد تراجعت نسبة المشاركة في الإضرابات والتحرّكات المطلبية، ما يعود إلى فقدان الثقة في جدوى التظاهرات الاحتجاجية، والخوف من التضييق الأمني، والملاحقات القضائية، وكذا بسبب غموض الخطاب النقابي الذي لم يعد مقنعاً بما يكفي للأجيال الشابة. والنتيجة ضعف تأثير الاتحاد في الشارع، وبالتالي، تراجع قدرته على الضغط والتأثير في صنّاع القرار. ولا يعني هذا التراجع في القدرة التعبوية لا يعني فقط ضعف تأثيره في اللحظة الراهنة، بل يطرح أيضاً سؤالاً وجودياً حول مستقبله، باعتباره قوة نقابية كبرى في البلاد.
ولتراجع الدور المحوري للاتحاد تداعيات عدّة. فمن جهة، أدّى ذلك إلى فراغ في الفعل النقابي المنظّم، على نحو فسح المجال أمام احتجاجات عفوية وغير مؤطرة يصعب التفاوض معها. ومن جهة أخرى، أضعف الحوار الاجتماعي، إذ فقدت السلطة شريكاً تقليديّاً كان يساهم في التوصل إلى حلول وسط. كما أنّ تراجع الاتحاد أثّر سلباً بحيوية مكوّنات المجتمع المدني التونسي أمام السياسات الاقتصادية الحكومية القاسية، وأفقده جزءاً من آلياته في الدفاع عن الحقوق والحريات. في الوقت نفسه، سمح هذا التراجع بتمدّد خطابات شعبوية أو فوضوية تستثمر في الإحباط الشعبي من دون أن تقدّم بدائل حقيقية، وهو ما زاد المشهد هشاشة وتعقيداً.
الأزمة المركّبة التي يعيشها الاتحاد العام التونسي للشغل بعد “25 يوليو” في جوهرها انعكاس لتحولات عميقة تمسّ المجتمع التونسي عموماً
أمام هذه الأزمة المركّبة، يجد الاتحاد نفسه أمام رهانات كبرى. أولها استعادة الثقة الداخلية، عبر إصلاحات تنظيمية جذرية تضمن الشفافية، وتجديد النخب القيادية، وتعزيز الديمقراطية الداخلية. ثانيها تأكيد استقلاليته السياسية، بعيداً عن لعبة الموالاة أو الحياد السلبي، من خلال خطاب واضح يربط بين الدفاع عن الحقوق الاجتماعية وحتمية حماية الحريات واستعادة الديمقراطية. ثالثها تطوير أدوات نضالية جديدة قادرة على التعبئة في سياق سياسي صعب، بما يسمح باستعادة حضوره الفاعل في الشارع. ورابعها بناء تحالفاتٍ مدنية وسياسية واسعة، تعيد للاتحاد مكانته قوة اجتماعية ووطنية جامعة. وأخيراً، يحتاج الاتحاد إلى ممارسة نقده الذاتي لأدائه قبْل الثورة وبعدها، وبلورة بدائل اقتصادية واجتماعية واقعية، تقدّم حلولاً عادلة للأزمة الراهنة، بدل الاكتفاء برفض سياسات التقشف من دون طرح مسارات عملية بديلة.
الأزمة المركبة التي يعيشها الاتحاد العام التونسي للشغل بعد “25 يوليو” في جوهرها انعكاس لتحولات عميقة تمسّ المجتمع التونسي عموماً. فهي تكشف، من جهة، إرادة السلطة لتقليص دور الوسائط الاجتماعية والسياسية، وتكشف، من جهة أخرى، حدود النموذج النقابي التقليدي الذي لم يُجدّد نفسه بما يكفي لمواجهة تحدّيات المرحلة. غير أنّ الاتحاد، برصيده التاريخي وتجذّره في النسيج الاجتماعي، لا يزال قادراً على لعب دور محوري، إذا ما انخرط بجدّية في إصلاح داخلي عميق، وأعاد صياغة دوره على أسس الاستقلالية، والشفافية، والديمقراطية التشاركية، والمراجعة النقدية الموضوعية. والثابت أنّ مستقبل الاتحاد ليس شأناً نقابيّاً صرفاً، بل هو رهان وطني يتعلّق بمسار العدالة الاجتماعية، وبقدرة التونسيين على حماية حقوقهم في زمن الأزمات.
المصدر: العربي الجديد