
في لحظة فارقة من تاريخ سورية، وبينما تحاول البلاد لملمة جراح عقدٍ طويل من الحرب وانقسامات الجغرافيا والسياسة وما رافقها من انزياحات ديمغرافية وتدخّلات خارجية ما زالت تلقي بظلالها على الواقع، السياسي والأمني والاقتصادي، في البلاد، أنجز فريق بحثي مكوَّن من أكثر من مائة باحث وباحثة استطلاعاً للرأي العام شمل 3690 مستجيباً من مختلف المحافظات، واستغرق أكثر من 78 ألف ساعة عمل. هذا الاستطلاع، الذي نفّذه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالتعاون مع المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة، هو الأوسع من نوعه في تاريخ سورية، من حيث حجم العيّنة وعدد الأسئلة وتغطية الجغرافيا السورية بكاملها. وقد عرضت نتائجه الأولية في المنتدى السنوي لدراسات سورية المعاصرة الذي عقد نهاية الشهر الماضي (أغسطس/ آب) في دمشق.
جاء هذا الجهد البحثي في توقيت بالغ الحساسية، حيث تطرح سورية ما بعد سقوط النظام السابق أسئلة مصيرية عن مستقبلها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وإن قراءة متأنّية لنتائج الاستطلاع، التي سقف هذه المقالة عند بعضها، تقدم صورة مركّبة للواقع السوري بوصفه خليطاً من الأمل بالمستقبل وقلق من تحدّيات الحاضر.
ليس خافياً على أحد الواقع الاقتصادي المتهالك الذي تعيشه البلاد بسبب سنوات الحرب والحصار والعقوبات المفروضة على النظام السابق الذي ساهمت سياساته القمعية في دمار هائل في البنية التحتية، بفعل قصفه المدن والبلدات السورية التي ثارت على حكمه، وهو ما قاد إلى تراجع الإنتاجين، الزراعي والصناعي، إضافة إلى انهيار شبكات الخدمات الأساسية، ما جعل الاقتصاد السوري هشّاً للغاية، والمواطن السوري في حالة من الفقر والعوز. لقد جاءت نتائج الاستطلاع منسجمة مع واقع المجتمع السوري حيث تعيش 42% من الأسر حالة عوز اقتصادي، حيث لا يكفي دخلهم لتغطية حاجاتهم الأساسية، وهو ما يدفع أكثر من ثلث السكان إلى الاعتماد على تحويلات مالية من الخارج في سد حاجاتهم الأساسية. ومع ذلك، السوريون محكومون بالأمل والتفاؤل بالمستقبل، حيث رأى 56% من السوريين أن البلاد تسير في الاتجاه الصحيح، وهذا مؤشّر تفاؤلي يرتبط بتحسن الأوضاع الأمنية وزوال النظام السابق وتحرير المعتقلين وتحسّن نسبي للأوضاع الأمنية وبدء رفع العقوبات الغربية عن البلاد.
رغم إقرار 85% من المستجيبين بانتشار خطاب الطائفية في المجتمع، أكّدت الأغلبية رفضها للتمييز
وعند السؤال عن نظام الحكم الأفضل للبلاد، نقرأ أن 60% من السوريين يفضّلون النظام الديمقراطي، لكنهم يضعون “التحوّل الديمقراطي” في ذيل قائمة المشكلات التي تحتاج حلولاً سريعة، قد يبدو ذلك للوهلة الأولى تناقضاً. في الواقع، هذا يعكس ما يمكن وصفه بمفارقة القيم مقابل الأولويات. بمعنى أن هناك ميلاً واضحاً إلى الديمقراطية نظاماً سياسيّاً، إذ أكّد ما نسبته 61% أن النظام الأفضل للحكم في سورية اليوم هو الديمقراطي، وأكثر من نصف المستجيبين يقبلون تداول السلطة حتى لحزب يختلفون معه سياسيّاً إذا فاز انتخابيّاً. وهذه النسب مرتفعة جدّاً مقارنة بسياقات عربية مشابهة، وتؤكّد أن الديمقراطية باتت خياراً مبدئيّاً للمجتمع. وعندما سُئل السوريون عن أبرز مشكلات بلدهم، تصدّرت المخاوف من التقسيم، التدخلات الخارجية، الأوضاع الأمنية والاقتصادية. وهذا طبيعي في مجتمع خرج لتوّه من نظام قمعي وحربٍ طويلة؛ حيث تتقدّم الحاجات المباشرة (الأمن، المعيشة، الاستقرار) على الإصلاحات البنيوية التي ترتبط بنظام الحكم.
في القضايا الإقليمية، بدا الموقف السوري أكثر صلابة، فقد رفض 74% الاعتراف بإسرائيل، ورأى 55% أنها التهديد الأكبر لأمن سورية، و70% رفضوا أي اتفاق سياسي معها من دون استعادة الجولان المحتل، ومردّ ذلك الإرث التاريخي للصراع العربي الإسرائيلي، ولا سيما أن إسرائيل لا تزال تحتلّ أراضي سورية منذ 1967، وأضافت إليها أراضي جديدة، في اعتداء سافر على السيادة السورية. كذلك فإن حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة التي يتابعها نحو 74% من السوريين من كثب تظهر مركزية القضية الفلسطينية في الوعي السوري. واعتبر 88% أن إسرائيل تعمل على تهديد استقرار البلاد من خلال تغذية النزعات الانفصالية.
ترسم هذه الأرقام سقفاً واضحاً أمام أي محاولة رسمية للانفتاح على إسرائيل، فلا شرعية شعبية لأي تفاهم من دون عائد سيادي وأمني يضع حدّاً للاعتداءات الإسرائيلية اليومية عن سورية واستعادة الأراضي المحتلة، وفي مقدمها الجولان السوري. وتجدُر الإشارة في هذا السياق إلى أن نتيجة اعتراف السوريين بإسرائيل تنسجم مع المزاج العربي العام الذي وثّقته دورات “المؤشّر العربي” السابقة في المنطقة.
استطلاع يشكل بوصلة دقيقة لتحديد أولويات حدّدها السوريين بالأمن والاقتصاد أولاً، ثم الإصلاحات السياسية
رغم إقرار 85% من المستجيبين بانتشار خطاب الطائفية في المجتمع، أكّدت الأغلبية رفضها للتمييز. وصرّح 66% بأنهم لا يفرّقون في التعامل مع الآخرين على أساس الدين أو الطائفة، فيما عبّر 75% عن قناعة راسخة بأن العرب يشكّلون أمة واحدة، وإن اختلفت تفاصيل تجاربهم. وتكشف هذه النتائج عن إمكانات كامنة لإعادة بناء هوية وطنية سورية جامعة، تعلو على الانقسامات التي عمّقتها الحرب خلال السنوات الماضية.
لا تكمن أهمية هذا الاستطلاع في أرقامه المجرّدة بقدر ما تكمن في رمزيّته التاريخية، فهو أول استطلاع موسّع يجري في سورية منذ عقود. وهو يقدّم صورة بانورامية عن سورية 2025، التي يحكمها الأمل السياسي المتجدّد بعد سقوط النظام، وضغوط الأزمة الاقتصادية على الحياة اليومية للمواطنين، والتمسّك بخيار الديمقراطية مشروعاً للمستقبل، وموقف صريح وصلب في مواجهة التطبيع مع إسرائيل. كذلك يقدّم الاستطلاع للباحثين قاعدة بيانات أصيلة لفهم المجتمع السوري في لحظة الانتقال السياسي الذي تعيشه البلاد، ويزوّد المثقفين بأدوات علمية لتفنيد السرديات الانقسامية، ويمنح الإعلاميين إطاراً مهنياً لرصد نبض الشارع بعيداً عن الانطباعات السطحية ومعارك منصّات التواصل الاجتماعي. أما بالنسبة إلى صنّاع القرار، فإنه يشكّل بوصلة دقيقة لتحديد أولويات حدّدها السوريون بالأمن والاقتصاد أولاً، ثم الإصلاحات السياسية، مع إدراك واضح لحدود الحركة في الملفات الإقليمية الحساسة، وفي مقدمها العلاقة مع إسرائيل.
المصدر: العربي الجديد