
تورطت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بالتعاون مع وزير الخارجية الأكثر تأييداً لإسرائيل، ماركو روبيو (حصل على أكثر من مليون دولار من تمويل لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك) عام 2024)، في عملٍ غريبٍ نوعاً ما، وهو شيطنة الشعب الفلسطيني وقيادته.
تُثير سلسلةٌ من القرارات المُعادية للفلسطينيين الصادرة عن وزارة الخارجية سؤالاً حاسماً ومُقلقاً: لماذا تستهدف الولايات المتحدة وإسرائيل محمود عبّاس، أكثر القادة الفلسطينيين اعتدالاً وسلاماً؟ رفضت الولايات المتحدة، في 29 الشهر الماضي (أغسطس/ آب) منح تأشيرات لـ 80 فلسطينياً مدعواً إلى الأمم المتحدة، وهو إجراءٌ استثنائيٌّ عادةً ما يُطبّق على أكثر المُخالفين جسامةً. ثم أصدرت الولايات المتحدة توجيهاً يمنع القنصليات الأميركية من منح تأشيرات مرضية أو تعليمية لحاملي جوازات السفر الفلسطينية. وتُعدّ هذه القرارات مثيرة للقلق الشديد، بل وغير منطقية بصراحة. وقد فُرضت عقوبات على ثلاث منظّمات فلسطينية غير حكومية مرموقة تُعنى بحقوق الإنسان لمجرّد قيامها بعملها.
ورغم إحباط الفلسطينيين، ظلّ عبّاس ملتزماً الدبلوماسية، ورفض قطع التنسيق مع الأمن الإسرائيلي والمخابرات الأميركية، حتى وإن أغضب ذلك خصومه السياسيين. فشلت جهود المصالحة بين حركتي فتح وحماس، ما يعود، في جزء كبير منه، إلى رفض عبّاس استيعاب الحركة الإسلامية. فلماذا تستهدف الولايات المتحدة حالياً الزعيم الفلسطيني الوحيد الذي يدعو إلى السلام؟
لقد ناضل الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه السياسية لأجيال، ولن يوقفه حرمانه حقّ التحدث في الأمم المتحدة وإسكات أصواته
تذهب إحدى النظريات التي تكتسب زخماً إلى أن عبّاس لا يتناسب مع صورة “الشيطان” التي تحتاجها إسرائيل والولايات المتحدة لتبرير سياساتهما المتطرّفة في المنطقة. مع إضعاف “حماس”، تحتاج إسرائيل والولايات المتحدة شخصية جديدة لتشويه سمعتها، ويصبح عبّاس، الذي يمثل حق تقرير المصير الفلسطيني، كبش فداء مناسباً. اعتداله واستعداده للانخراط في محادثات السلام يهدّدان الأهداف التوسّعية لمن يتصوّرون “إسرائيل الكبرى”.
على الرغم من معارضته تسليح “حماس”، ودعمه الجهود الفرنسية السعودية لنزع سلاحها، يبدو أن واشنطن وتل أبيب لا تهتمان، في الواقع، بمعاقبة عبّاس، إنهما تبدوان مصمّمتين على القضاء على مفهوم القومية الفلسطينية وإسقاط الحكومة الفلسطينية. المفارقة أن الولايات المتحدة وبقية العالم (بما في ذلك معظم الإسرائيليين) يدعمون حل الدولتين الذي يتطلب، بطبيعة الحال، دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.
على أميركا أن تكفّ عن اتباع سياسات إسرائيل المتطرّفة، وأن تدفع بدلاً من ذلك نحو إنهاء الصراع في غزّة
يبقى السؤال الأعمق: لماذا تقتنع الولايات المتحدة برواية إسرائيل اللاإنسانية؟ بحرمان الفلسطينيين، بغض النظر عن أعمارهم أو صحتهم أو غاياتهم، إمكانية الحصول على تأشيرات، فإن الولايات المتحدة تتحالف مع سياسات إسرائيل المتطرّفة، التي تُستخدم لتبرير الهجمات العشوائية على المدنيين الفلسطينيين. لماذا تتواطأ الولايات المتحدة في هذا التجريد من الإنسانية؟ يمكن للإسرائيليين الحصول على تأشيرة في المطارات الأميركية، بينما يُحرم الفلسطينيون الذين يسعون للحصول على تأشيرات طبية أو تعليمية أو حتى لرؤية أقاربهم الأميركيين الفلسطينيين.
لقد ناضل الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه السياسية لأجيال، ولن يوقفه حرمانه حقّ التحدث في الأمم المتحدة وإسكات أصواته. على الولايات المتحدة أن تسأل نفسها لماذا اختارت هذا المسار، خصوصاً أن عواقب شيطنة عباس تُهدد بتقويض أي فرصة للسلام الدائم.
سياسة ترامب “أميركا أولاً” دفعته إلى لقاء زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، ومدّ يده إلى إيران. فلماذا إذاً تُصرّ واشنطن على تصديق مواقف إسرائيل المتطرّفة؟ مع توقع اعتراف أكثر من 80% من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بفلسطين بحلول نهاية سبتمبر/ أيلول الحالي، حان الوقت لترامب لحثّ إسرائيل على التخلي عن طموحاتها التوسّعية وقبول دولة فلسطينية مسالمة وديمقراطية إلى جانبها.
على أميركا أن تكفّ عن اتباع سياسات إسرائيل المتطرّفة، وأن تدفع بدلاً من ذلك نحو إنهاء الصراع في غزّة. عليها دعم محادثات جادّة وصادقة من أجل حل الدولتين الذي يسمح لدولة فلسطينية ديمقراطية بالعيش بسلام إلى جانب إسرائيل. هذا هو الطريق الصحيح، والذي لا يزال من الممكن اتباعه إذا اختارت الولايات المتحدة التصرّف بما يتماشى مع قيمها.
المصدر: العربي الجديد