هل تسير سوريا نحو السلفية؟

حسام جزماتي

شكّلت ذكرى المولد النبوي الشريف، في شهر ربيع الأول الهجري الجاري، فرصة لاختبار المخاوف، أو الآمال، التي بدأ الحديث عنها منذ سقوط النظام ووصول «هيئة تحرير الشام» إلى الحكم في دمشق، عن سلفنة سوريا، بسبب الأرضية التي نشأت عليها هذه الجماعة ورافقت مسيرتها.

وقد افتتحت وزارة الأوقاف هذا الشهر بتعميم عن ما أسمته «الفعاليات الدعوية» التي ستقام في المساجد فيه، يحدد ضوابطها بشكل سارت به الوزارة بهذه المناسبة من طابعها الاحتفالي الشعبي إلى أن تصبح «مجالس علمية» أو «محاضرات» أو كلمات دعوية أو قراءة بعض الكتب. أما الأناشيد، التي كانت تحتل معظم وقت الاحتفال التقليدي، فقد رأت الوزارة أنه «لا بأس» باستخدام الهادف منها، الملتزم بالضوابط الشرعية، شرط ألا يصحبه إلا الدُفّ. وعلى ألّا يُبث الاحتفال عبر المكبرات إلى الخارج. وأخيراً نبهت الوزارة إلى ضرورة «التنسيق» مع مديرياتها في المحافظات للحصول على الترخيص بشكل مسبق يضمن تنظيم البرامج، وكلّفت هذه المديريات بتشكيل لجان تتابع الالتزام بهذه الضوابط وفق التوجيهات الوزارية.

أما الوزير، محمد أبو الخير شكري، فقد بث كلمة رسمية هنّأ فيها المسلمين بهذه الذكرى، وأعلن عن إقامة «المؤتمر الحديثي العالمي» الذي يبدأ أول مشاريعه بسماع صحيح البخاري، بسندٍ عالٍ، بحضور عدد من المشايخ المختصين في أحد جوامع دمشق المركزية، لمدة خمسة عشر يوماً يعقبها حفل ختامي في الجامع الأموي. وذلك رداً، ربما، على أصوات قالت إن الوزارة منعت الموالد.

بترجمة كلام الوزارة ووزيرها إلى لغة أكثر ارتباطاً بالسياق يمكن أن نستنتج أنه كان سيراً على صراط حذر بين قوتين متجاذبتين؛ أولاهما البنية المألوفة للتدين في سوريا، المتأثر بالصوفية، وثانيتهما هي القاعدة السلفية، بهذه الدرجة أو تلك، للحكم الحالي. ولتحاشي تحول هذه المناسبة الجليلة إلى فرصة للصدام لجأ «الإسلام الشامي» إلى حل متوارث لديه خلال قرن مضى، وهو الطريق «العلمي» المنضبط بالحدود الشرعية، مقدَّماً بوسطية، معتادة أيضاً، تكسب الطرف الصوفي الشعبي الذي لا يستطيع الاعتراض على التشريع، وتُرضي المنهج السلفي بتشذيب الاحتفالات من أبرز مسببات إنكاره لها. في حين تركت الوزارة متشددي الطرفين؛ غلاة المتصوفة الذين يحبون المبالغة في المدائح وطقوس الاحتفال، وأقصى السلفية الذين يرون أن المولد بدعة ينبغي عدم السماح بإقامتها أصلاً؛ تركتهم من دون استرضاء.

والحال أن هذين الطرفين ليسا في وضع يسهّل أمامهما الاعتراض. فمن جهة أولى ارتبط واقع الصوفية، مشايخ وطرقاً، خلال سنوات الثورة، بموقف بارد منها في أكثر الحالات، وصولاً إلى تأييد النظام، طوعاً أو كرهاً، والمشاركة في مناسباته وإضفاء الشرعية عليه. في حين أن السلفية الصلبة لم تتجذر في دين البلاد بشكل كاف، رغم كل الخطب والمظاهر والمطويات، وظلت أقرب إلى الرافد الوافد الذي ترك آثاراً يمكن تدجينها والتراجع عن بعضها. خاصة وأن السلفية التي لا تقبل بالحلول الوسط كانت من سمات المهاجرين، الشرعيين الخليجيين والمصريين أساساً، ومن تأثر بهم من سوريين. وقد انخفض وزن الكل بالتصفية حين انتموا إلى جماعات متشددة واستهدفهم «التحالف الدولي»، وبالتحجيم والتهميش من قبل قيادة «هيئة تحرير الشام» عليهم في الشمال السوري لسنوات.

إذ إن «الهيئة» لم تبدأ سعيها لأن يتقبلها العالم مع سقوط بشار الأسد في كانون الأول الفائت، بل قبل ذلك بأعوام تراجعت فيها، بالسرعة الممكنة، عن النهج السلفي الجهادي. فتبنّت المذهب الشافعي، لا الحنبلي أو اللا مذهبية، في إدلب. وتحكمت، عبر وزارة الأوقاف في «حكومة الإنقاذ»، بتعيين الخطباء والمدرّسين الدينيين في المساجد وكوادر المعاهد الشرعية وحدّت من غلوائهم عندما يلزم. وأمسكت بفتاوى الشأن العام من خلال مجلس شرعي هيمنت عليه. أما من تبقى من المتشددين والملتزمين، وهم ليسوا قلائل، فإن مشكلتهم مع قيادة «الهيئة» لا تقف الآن عند حدود الاحتفال بالمولد بل تتعداه كثيراً إلى التساؤل عن النهج العام الذي تتبعه السلطة لحكم البلاد. ذلك أن الشأن الديني لا يبدو من أولويات هذه الحكومة التي تولي الاهتمام الأكبر للأمن والاقتصاد وبناء علاقات خارجية داعمة. وهي لا تطلب من القطاع الديني سوى أن يكون هادئاً، لا يستفز سلفيوه بيئة التدين المنتشر في أوساط العرب السنّة، ولا سواهم من الطوائف، ولا يُترك للممارسات الدينية الشعبية العنان لتحفيز قاعدة «الهيئة» وحاضنتها للمبادرة إلى «تغيير المنكر» بأيديها مباشرة. فالتعريف الديني الأقرب للسلطة الحالية هو أنها محافظة اجتماعياً وشرعياً. وفي غمرة سعيها الحثيث لاجتذاب الاستثمارات لا يبدو أنها تمتلك، تجاه مسألة الاحتفال بالمولد النبوي وسواها، ميلاً لنشر المنهج السلفي، بقدر ما دعا تعميم وزارة الأوقاف إلى «استثمار هذا الموسم».

على هامش ذلك كله ارتفعت أصوات تنعي الاحتفال بالمولد النبوي مما يهدّد بتغيير الوجه الديني للبلاد في رأيهم. وكان معظم هؤلاء ممن لم يهتموا لأمر المولد نهائياً في السابق، ودفعتهم إلى الحديث عن الموضوع رغبة ملحة في انتقاد كل ما تقوم به، أو يمكن أن تقوم به، السلطة. والحق أن مناسبات عديدة كهذه سبق وأضعفت المعارضة حين اعتمدت على معلومات ليست دقيقة حول بعض القصص التفصيلية. مما أعطى أنصار الحكم فرصة للرد بحجج بدت مقنعة، وأتاح لهم تحويل الأنظار عن مسائل جذرية تستحق الاعتراض الجاد.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى