
ليست الوطنية في المجتمعات الحديثة شعاراً فضفاضاً أو انفعالاً عاطفياً مؤقتاً، بل هي بناء اجتماعي وسياسي يقوم على فكرة الانتماء إلى جماعة سياسية واحدة، رغم ما بينها من اختلافات في الدين أو القومية أو اللغة أو الثقافة.
وفي الحالة السورية، حيث تتقاطع فسيفساء الهويات الفرعية بشكل قلّ أن يوجد له مثيل في المنطقة، يصبح السؤال أكثر إلحاحاً: هل تهدد الخصوصيات المتعددة وحدة الوطن؟ أم أنها يمكن أن تكون مصدر قوة إذا أحسنّا إدارتها؟
منذ عقود طويلة، ساد في الوعي الجمعي العربي عموماً، والسوري خصوصاً، ميلٌ إلى النظر إلى الخصوصية على أنها خطر كامن: الطائفة تهدد وحدة المجتمع، والقومية الفرعية تشق الصف الوطني، واللغة الخاصة تعرقل الاندماج!
هذه المخاوف غذّاها تاريخ من النزاعات والحروب الأهلية في محيطنا، حيث تحولت الهويات الفرعية إلى وقود لصراعات دموية. لكن علم الاجتماع السياسي يقدم قراءة مختلفة تماماً، تؤكد أن الخصوصية لا تتنافى مع الوطنية ولا مع فكرة دولة القانون، بل العكس: غياب الاعتراف بالخصوصيات هو الذي يهدد الدولة ويمزق الوطن.
الدولة التي تعترف بحقوق مكوناتها وتساوي بينهم في القانون هي التي تنتج شعوراً وطنياً صلباً ومستقراً.
الوطنية كتصور مشترك
يذكر عالم الاجتماع بندكت أندرسون أن الأمة هي “جماعة متخيلة”، أي أنها لا تقوم على رابطة الدم أو الدين وحده، بل على تصوّر مشترك يجعل ملايين الأفراد يشعرون أنهم ينتمون إلى فضاء سياسي واحد.
هذا التصور لا يعني طمس الفوارق الداخلية، بل صياغتها ضمن مشروع جامع. لذلك فإن الوطنية السورية لا تُبنى على نفي الانتماءات الطائفية أو القومية أو الثقافية، وإنما على خلق إطار سياسي يجعل الجميع شركاء في عقد اجتماعي واحد.
أما إرنست غلنر، فذهب أبعد من ذلك حين اعتبر أن القومية هي نتاج الدولة الحديثة، لا العكس. أي أن بناء الدولة هو ما يصنع الانتماء الوطني، وليس الذوبان القسري للهويات الفرعية. وبعبارة أخرى: الدولة التي تعترف بحقوق مكوناتها وتساوي بينهم في القانون هي التي تنتج شعوراً وطنياً صلباً ومستقراً.
الخصوصية كثراء اجتماعي
الخصوصية ليست انقساماً بالضرورة: عالم الاجتماع العراقي علي الوردي كان يؤكد أن التعددية الثقافية يمكن أن تكون مصدراً للإبداع والتجديد، إذا أحسن المجتمع إدارتها.
فحين تتعايش اللغات واللهجات والطقوس والموروثات المختلفة في إطار واحد، تصبح مادة لإنتاج ثقافة غنية ومعقدة، قادرة على التفاعل مع العالم بمرونة أكبر.
وفي التجربة الأوروبية، لم تؤدِّ الخصوصيات القومية والدينية إلى انهيار الدول الحديثة، بل إلى ابتكار أنظمة سياسية مرنة تسمح لكل جماعة بالتعبير عن نفسها ضمن القانون. سويسرا مثال واضح: أربع لغات رسمية، ديانات متعددة، وانقسامات مناطقية حادة، لكنها اليوم من أكثر الدول استقراراً. والسبب بسيط: كل فرد هناك مواطن كامل الحقوق، لا يُطلب منه أن يتخلى عن خصوصيته لكي يكون سويسرياً.
تتجاذب الخطابات السياسية والاجتماعية بين اتجاهين: اتجاه يخاف من الخصوصية ويرى فيها بذرة لتقسيم الوطن، واتجاه يستغل الخصوصية ليفرض نفسه على الآخرين.
القانون جسر العبور للوطنية وتعميق الانتماء
في العلوم السياسية، يشدد يورغن هابرماس على أن “الوطنية الدستورية” هي الأساس في المجتمعات المتعددة، أي أن الانتماء الأسمى هو للنظام القانوني الذي يساوي بين الأفراد، لا للهويات الفرعية ولا حتى للهوية القومية وحدها. بهذا المعنى، لا أحد يُطلب منه التخلي عن دينه أو قوميته أو لغته، لكن الجميع يُطلب منهم أن يلتزموا بعقد دستوري عادل يحمي حقوق الجميع.
الهند مثال آخر لنجاح هذا المنطق: مئات اللغات واللهجات، عشرات الديانات، انقسامات طبقية وتاريخية هائلة، ومع ذلك ما تزال دولة قائمة منذ استقلالها. السر ليس في إلغاء الخصوصيات، بل في بناء دستور يُلزم الجميع بالاحتكام إلى القانون.
في سوريا، تتجاذب الخطابات السياسية والاجتماعية بين اتجاهين: اتجاه يخاف من الخصوصية ويرى فيها بذرة لتقسيم الوطن، واتجاه يستغل الخصوصية ليفرض نفسه على الآخرين. كلا الاتجاهين يفتقر إلى فهم أعمق: أن الخصوصية ليست تهديداً بحد ذاتها، بل تتحول إلى تهديد حين تُقمع أو حين تُستغل لفرض الهيمنة.
الوطنية السورية اليوم تحتاج إلى خطاب جديد: خطاب لا يطالب الكردي أن يتخلى عن لغته، ولا المسيحي أن يخفي صليبه، ولا العلوي أن يعتذر عن مذهبه، ولا الدرزي أن يذوب في غيره، ولا السني أن يتخلى عن انتمائه التاريخي. الوطنية السورية الحقيقية تطلب من الجميع أن يكونوا مواطنين في دولة قانون تحميهم جميعاً، وتساوي بينهم جميعاً، وتضمن لهم التعبير عن خصوصياتهم دون خوف أو قمع.
إذا أراد السوريون فعلاً الخروج من دوامة الصراع والتخوف المتبادل، فعليهم أن يتبنوا رؤية تجعل من فسيفساء المجتمع لوحة متكاملة، لا شروخاً متقابلة.
نحو عقد اجتماعي جديد
إذن، التحدي ليس في “إلغاء الخصوصية” بل في “تأطيرها”، وهذا لا يتم إلا عبر عقد اجتماعي جديد، يقوم على ثلاث ركائز:
- المساواة القانونية: لا مواطن درجة أولى وآخر درجة ثانية؛ الجميع متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات.
- الاعتراف بالتنوع: اعتبار التعددية واقعاً مشروعاً ومصدراً للغنى، لا خطراً يجب التخلص منه.
- الوطنية الجامعة: الانتماء الأعلى هو للدستور والدولة، مع بقاء الانتماءات الخاصة في إطارها الطبيعي.
ما لابد من قوله
الخصوصية والوطنية ليسا خصمين. الوطنية تعطي المشترك، والخصوصية تمنح الثراء. دولة القانون هي الحاضنة الوحيدة التي تتيح لهما أن يتعايشا دون خوف. وإذا أراد السوريون فعلاً الخروج من دوامة الصراع والتخوف المتبادل، فعليهم أن يتبنوا رؤية تجعل من فسيفساء المجتمع لوحة متكاملة، لا شروخاً متقابلة.
وبكلمات واضحة: الخصوصية ليست خطراً على الوطنية، بل هي ضمانتها. الخطر الحقيقي يكمن في غياب القانون العادل، وفي محاولات القمع أو الاستغلال. أما حين تُدار الخصوصية في إطار دستور جامع، فإن الوطنية السورية لن تكون شعاراً هشاً، بل عقداً صلباً يربط بين المختلفين ويحوّل اختلافهم إلى مصدر قوة.