
اللغة صنو العالم، والحياة الإنسانية، ومن خلالها تطرح الأسئلة الوجودية، ومشكلة المعنى فى الحياة. اللغة هى التواصلية بين مكونات كل جماعة –عرقية أو دينية أو مذهبية أو قومية-، ومن ثم تشكلت عبر الأنظمة اللغوية – مع مكونات أخرى – الثقافات الإنسانية المتعددة، وذاكرة المجتمعات والأفراد. ساهمت اللغة وطابعها الاتصالى فى بناء الموحدات المشتركة داخل الجماعات ومكونات كل مجتمع انسانى آيا كان. من خلال اللغة تشكلت الهويات آيا كانت، وأيضا تطورت مع تقدم المجتمعات تقنيا علميا، ورأسماليا، تنامت وتطورت اللغة ومفرداتها ومجازاتها وأساليب تعبيرها، وأدت الثورة الألسنية إلى تجديد الأسئلة والمفاهيم والمصطلحات الفلسفية، والسياسية والقانونية وفى العلوم الاجتماعية كافة ، والأدب والفنون، والصحافة والأعلام، والثقافات المتعددة . التجديدات فى نظريات اللغة، ومناهج مقارباتها ساهمت فى رفد العقل والفكر الإنسانى بالحيوية والدينامية. من هنا كانت الصراعات اللغوية بين اللغات الكبرى فى المراحل التاريخية المختلفة، الوجه الآخر للصراعات السياسية بين الدول والمجتمعات وداخلها قبل الدولة الأمة والرأسمالية، وخاصة مع الاستعمار الغربى، ومع الإمبرالية الغربية، ومن هنا تمددت اللغة الانجليزية، وهيمنت مع الفرنسية والإسبانية والايطالية واالبرتغالية على العالم.
من ثم ذهب عديد من كبار اللغويين فى عالمنا – فرنسا علي وجه التحديد -الى أن اللغة الصينية سوف تتمدد وتسيطر على لغات العالم من منتصف القرن الحالى إلى نهايته ، وذلك دلالة على التحولات فى مواقع القوة التكنولوجية والاقتصادية والعلمية، بين الصين الصاعدة، وبين الولايات المتحدة، ودول أوروبا التى بدى بعض من التراجع فى قوتها التكنولوجية والاقتصادية والعلمية والسياسية علي نحو مارصد بعض المفكرين والخبراء الأوروبيين .
حركية اللغات جزء رئيس من تطور المجتمعات والدول العلمى، والتكنولوجى والثقافي، الذى يجد تجسيده ومعناه فى أنظمة اللغة، والتبادل فيما بينها، وبين بعضها بعضًا في العصر الحديث والمعاصر . ساهمت اللغة على نحو مركزى، فى توحيد البلدان الأوروبية ما قبل الدولة الأمة، مع توحيد الرأسمالية للأسواق، وأيضا فى تطور الثورات الصناعية الأولى، والثانية، والثالثة، ومعها تطور العلوم الاجتماعية، والعلوم الطبيعية.
الحداثة تشكلت عبر اللغة، والعقل الحداثى الغربى، والإنتاج الفلسفى والقانونى والأدبى وفى الأدب والفنون والسوسيولوجيا، وأيضا نظريات ما بعد الحداثة وما بعد بعدها.
مع الثورة الصناعية الرابعة، والثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعى التوليدى وأنظمته، ثمة تحولات فى اللغة، ومفرداتها ومجازاتها بل وفوضاها، من خلال السرعة الفائقة فى عالم الرقمنة والذكاء التوليدى.
الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعى سيشكلون ثورة لغوية من حيث المفردات، والمجازات، والأساليب اللغوية، وفى المعانى، وطبيعة الوظيفة الاتصالية، وفى التلقى سواء كانت اللغة المكتوبة، أو اللغة الشفاهية، أو اللغة المحكية، أو لغة الصور بالنظر إلى أثر وسائل التواصل الاجتماعى ومنشوراته، وفيديوهاته، وتغريداته، وصوره على اللغة.
تمثل الصور والفيديوهات مركزًا للغة البصرية، والشفاهية سواء من حيث إبداء الآراء آيا كانت قيمتها، أو تفاهاتها، أو من أجل الإثارة اللفظية والفحش فى العبارات السوقية أو الجنسية، من اجل تعظيم المشاهدات والقراءات والتعليقات للحصول على المال من الشركات الرقمية.
الملاحظ أن وسائل التواصل الاجتماعى فى مصر، والمنطقة العربية، تسيطر علي بعضها اللغة المهجنة بين الفصحى ، والعاميات العربية ذات السطوة ، والانطباعات المرسلة، وأحكام القيمة الأخلاقية، والهجاء والمديح من السياسة، إلى الفنون إلى الأخلاق والدين، والقيم السائدة أو الأفلة التي تجاوزها التغير الاجتماعي !
لا شك أن اللغة الرقمية، تأثرت باللغة الفعلية فى واقع كل مجتمع، وجماعاته التكوينية – القبلية والعشائرية والدينية والمذهبية والمناطقية، والعرقية-، وأثرت اللغة الرقمية على اللغة فى الواقع والحياة الفعلية.
يلاحظ أن تحليل بعض العينات اللغوية خلال ساعة أو يوم، أو أسبوع، أو شهر… إلخ، يجدها فى حالة تغير جزئى متنامي، مع موضوعات السجالات الرقمية أو الفعلية فى السياسة، والأمن، والجرائم، والفضائح، وأخبار المطربات والمطربين، والممثلين والممثلات، وباتت جزء أساسيا من الصور والمنشورات والتغريدات والإثارة والفضائح من نظام الزى، إلى صورهم، وصداقاتهم، وزواجهم وطلاقهم، وحفلاتهم، وتعليقاتهم على بعضهم بعضا، أو فى ابدأ دعمهم للحكومات وللحكام… إلخ.
بعض هذه اللغة تسعى إلى أن تكون ” تريندات ” على وسائل التواصل الاجتماعى، سعيا وراء الشهرة، والذيوع، أو استعادتها بعد أن أفلت وحل محلها آخرين، نظرًا لتراجع الإنتاج الفنى فى السينما، والدراما التلفازية التى أدت إلى بطالة بعض الفنانين الكبار فى السن، أو تغير الأذواق، ونمط الاستهلاك السينمائى والدرامى والمسرحى، والغنائى.
التغير فى الأذواق ناتج عن التغيرات الجيلية، وأصبحت الأجيال الرقمية Z وآلفا وما بعدهما يميلون إلى الاستهلاك السريع للوجوه ، والأصوات التى تمثلهم فى الموسيقى، والإيقاعات والاختيارات والسرعة والنظرات الومضاتية فى الأعمال الفنية، والكثافة، والإيجاز.
الميل إلى الإيجاز فى اللغة، ومنشوراتها تبدو فى التغريدات على منصة (X)، وأيضا المنشورات وفى أنماط السخرية البذيئة، أو العادية، أو النكات وأيضا فى الأوصاف السلبية، أو الايجابية، أو الطبقية . لغة السطحية تعبر عن ضعف المحصول اللغوى لدى الأجيال الرقمية ومن ثم تبدو جلية بالنظر إلى ضعف التكوين اللغوى، ومستوي تعليم اللغة العربية فى مراحل التعليم المختلفة حتى الجامعى وما بعده. من ثم تسيطر بعض من لغة الشارع على الحياة الرقمية.
لاشك أن ضحالة اللغة، عكست ولا تزال أزمات العقل شبه الجمعى، وأيضا ما يطلق عليهم النخب آيا كانت! التدهور اللغوى، وثقافة الإجابات الجاهزة، ساهمت فى تراجع حيوية التفكير على رسائل التواصل الاجتماعى نظرًا لتراجع ثقافة الأسئلة، والإشكاليات. مرجع ذلك أن ثقافة الحفظ والتلقين هى السائدة فى مراحل التعليم المختلفة، والخلط بين العلم، والقيم الدينية، والأخلاقية السائدة.
اللغة الدينية تبدو سائدة فى اللغة الرقمية، وهى لغة نقليه من الموروث اللغوى والفقهى والتفسيرى الوضعي الماضوى، وكانت تشكل إجابات عن أسئلة عصورها المختلفة إسلاميا، ومسيحيا.
يستخدم بعض رجال الدين، وجماعاته السياسية والسلفية وسائل التواصل الاجتماعى فى نشر نصوصهم النقلية الموروثة ومحاولة تطبيقها على واقع متغير، وفائق السرعة، يطرح أسئلة مغايرة تماما لتأويلاتهم النقلية الموروثة، والواقع التاريخى الذى طرحت خلاله! استخدام اللغة الدينية الفقهية والكلامية الموروثة بات يشكل فجوة مع المعرفة اللغوية الضعيفة للأجيال الرقمية، ومن ثم يجافى بعضهم هذه اللغة المورثة!
من هنا بات طوفان اللغة الرقمية المستمر دونما توقف، ويعبر عن أنماط التفكير اللاتاريخى السائدة، وفى ذات الوقت تؤدى اللغة الرقمية وخطاباتها الانطباعية المرسلة إلى إطلاق بعضهم للأحكام الأخلاقية حول مراحل ورموز ووقائع تاريخية فى مصر، والعالم العربى.
من ثم باتت اللغة الرقمية السائلة – التافهة والسطحية والانطباعية حول تاريخ بلادنا، والمنطقة والعالم – تشكل أحد محركات الصراعات الحادة حول الهوية، وتؤدى إلى انقسامات تضعف الانتماء الوطنى، والتكامل الداخلى بين الفئات الاجتماعية المختلفة.
لغة الانقسامات حول الهوية على نحو صراعى وايديولوجى ودينى ومذهبي تؤدى إلى تأكل الموحدات الوطنية الجامعة، والرأسمال السياسى الوطنى المشترك للأمة المصرية.
باتت اللغة القبائلية والعشائرية الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية تمثل أداة فى توسيع الفجوات، ، وكسر واضعاف قواعد العيش المشترك فى لبنان وسوريا، والعراق، واليمن، والسودان، وليبيا، وفى إعاقة التحول إلى موحدات مشتركة ووطنية، فى هذه المجتمعات العربية .
ساهمت اللغة الرقمية فى إنتاج فجوات بين بعضهم وآخرين فى الشعوب العربية الأخرى فى تنابذات وهجاءات متبادلة، وهو ما يساهم في انتاج بعض التناقضات الشعبية في العلاقات العربية – العربية في ظل اضطراب العلاقات بين بعض الأنظمة العربية بعضها بعضا !
تتراجع جزئيا اللغة العربية الفصحي ، بوصفها الموحد العروبى للثقافات المتعددة عربيا، وفى إنماء المشتركات القيمية، والثقافية العابرة للتعدديات العربية، ومشاكلها، وصراعاتها.
خلقت اللغة الرقمية ومنشوراتها وفيديوهاتها فجوات بين الأجيال، وستتزايد فى المقبل من السنوات فى سرعة فائقة، وهو ما سيؤثر على النظام اللغوى العربى الفصيح، ويساهم فى تهميش الفصحى، لغتنا العابرة للتعدديات الثقافية، والهجاءات، واللغات العامية.
المصدر: الأهرام