الصين بين استعراضيْن عسكريين

سامر خير أحمد

بينما كانت عربة الرئيس الصيني شي جين بينغ تعبُر من أمام تشكيلات الجنود المصطفة قبالة بوابة المدينة المحرّمة في قلب العاصمة الصينية، في مفتتح استعراض عسكري كبير شهدته بكين في الثالث من سبتمبر/ أيلول الجاري (2025)، راح الجنود يردّدون عبارات اختتم بها شي خطابه في الاستعراض العسكري الذي أقيم قبلها بعشر سنوات، مفادها: النصر للعدالة، النصر للسلام، النصر للشعب.

والمعنى البسيط لتوظيف تلك العبارات أن الاستعراض العسكري الجديد لهذا العام الذي أقيم في الذكرى الثمانين لانتصار الصين على الاحتلال الياباني وانتهاء الحرب العالمية الثانية، يعدُّ متابعةً للاستعراض العسكري السابق الذي أقيم في الذكرى السبعين عام 2015، وكان يومها حدثاً لافتاً افتتح به الرئيس شي عهده الذي اقترن بسعي الصين إلى تحقيق نفوذ عالمي من خلال مبادرة الحزام والطريق والبحث عن نظام عالمي متعدّد الأقطاب، وكان أول استعراض عسكري في الصين الشعبية منذ تأسيسها عام 1949.

لذا ما جرى بين استعراضي 2015 و2025، يمثل مرحلة خاصة في تاريخ الصين المعاصر، قوامها أن البلاد تحوّلت من التركيز الصامت على التنمية الداخلية ومراكمة النمو الاقتصادي إلى التفكير بمكانتها العالمية وإطلاق صوتها على الصعيد الدولي، مستعملة نجاحاتها الاقتصادية للتبشير بمجتمع إنساني أفضل يقوم على الازدهار والعيش المشترك، وقيادة دول الجنوب العالمي ومجتمعاته نحو التقدم الاقتصادي والاستفادة من ثمار التنمية. جعل هذا مرحلة الرئيس شي بمثابة نقطة تحوّل جديدة في تاريخ الصين عقب نقطتي تأسيس الجمهورية الشيوعية على يد الزعيم ماو تسي تونغ في أواخر أربعينيات القرن العشرين، وتحوّل البلاد إلى الإصلاح والانفتاح على يد الزعيم دينغ شياو بنغ في أواخر سبعينياته. وقد صاغت الصين نقطة التحوّل التاريخية الثالثة هذه في مشروع “التحديث على النمط الصيني” الذي أطلقته عام 2022، من أجل المواءمة بين مواصلة النمو والحفاظ على الموارد.

نجحت الصين في السنوات العشر الفائتة في تحقيق خطوات مهمة على صعيد ما تطمح إليه في المستويين، الدولي والأمني

ما أرادت الصين أن تقوله في استعراضها العسكري الجديد، إذاً، أنها نجحت في السنوات العشر الفائتة في تحقيق خطوات مهمة على صعيد ما تطمح إليه في المستويين، الدولي والأمني. ليس فقط لأنها أظهرت تطوّرها العسكري وقدراتها العالية على صعيد التسليح والانضباط الذي يمكّنها من حماية منجزاتها التنموية، ولا لأنها أشهرت أسلحة جديدة خلال الاستعراض في مجالات الطائرات المسيّرة بدون طيار وسلاح الفضاء والصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية وحسب، بل أيضاً لأنها اختارت أن تقرن هذا العرض العسكري الكبير الذي حضره قادة دول صديقة للصين بانعقاد قمة منظمة شنغهاي للتعاون في مدينة تيانجين الصينية قبله بيومين، والذي مثّل نموذجاً للنظام العالمي البديل الذي تتبنّى الصين الدعوة إليه، ومضمونه العلاقات الدولية القائمة على التعاون السلمي والربح المشترك والتكامل الاقتصادي رغم الخلافات، على الضدّ من النظام العالمي أحادي القطبية الذي تسعى فيه دولة واحدة إلى احتكار الربح، فتفرض رسوماً جمركية على الدول تتعارض مع مفاهيم التجارة العالمية المستقرة، وتتصرف على الضد من القانون الدولي، على ما ترى الصين. وهكذا اجتمعت الهند والصين في منظمة واحدة للتعاون، رغم الخلافات الحدودية والتنافس الاستراتيجي بينهما، واجتمعت فيها الهند وباكستان، رغم التوترات وحالة العداء التي أفضت إلى وقوع احتكاك عسكري بينهما قبل بضعة شهور.

كان تركيز الاستعراض العسكري الصيني على فكرة السلام والواجبات الدفاعية للقوات المسلحة المسمّاة “جيش التحرير الشعبي”، مكملاً لفلسفة الصين في الدعوة إلى نموذج جديد من النظام الدولي، لا يقوم على الصراع والأحلاف المتصارعة والحروب الباردة وغير الباردة، بل على التكامل بين الدول وفق قاعدة التعامل العادل والتزام القانون الدولي والسعي إلى الربح المشترك رغم الاختلافات الثقافية والخلافات السياسية والتنافس الاستراتيجي، لأن ذلك يمثل أكبر ضمانة لتحقيق التنمية في كل مكان، والتمسّك بالسلام العالمي باعتباره مصلحة للجميع، وهي فكرة أوردها الرئيس الصيني في كلمته خلال افتتاح الاستعراض العسكري: “لا يمكن ضمان الأمن المشترك إلا عندما تتعامل الدول مع بعضها على قدم المساواة، وتعيش في وئام، وتدعم بعضها بعضاً”. وهكذا، شرحت الصين للعالم أنها تجمع بين مساعيها إلى طرح نموذج جديد للنظام العالمي، وتوفرها على قوة عسكرية تدافع عن أمنها.

الاستعراض العسكري بالنسبة للصين يبعث رسالة مفادها بأنها قادرة على حماية أمنها ومنجزاتها لو تعرّضت للتهديد من القوى الكبرى

ولكن، هل انطوى الاستعراض العسكري على رسائل تهديد تجاه الولايات المتحدة والغرب عموماً، نظراً إلى جلوس الرئيسين الروسي بوتين والكوري الشمالي كيم جونغ أون إلى جانبي الرئيس الصيني على منصّة الحفل، فضلاً عن حضور الرئيس الإيراني وغيره من أصدقاء الصين؟ وهي الفكرة التي أشار لها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في تدوينة على منصّة “تروث سوشال” صبيحة يوم الاستعراض العسكري: “أتمنّى للرئيس شي ولشعب الصين العظيم يوماً رائعاً من الاحتفالات، وأرجو منكم إبلاغ تحياتي لفلاديمير بوتين وكيم جونغ أون بينما تتآمرون ضد الولايات المتحدة”. ربما كان يمكن أن يحمل الحفل مثل ذلك التهديد لو أن الصين لم ترسل دعوات لحضور الاستعراض العسكري لقادة الدول الغربية بمن فيهم ترامب، لكنها فعلت، وهذا يعني أنهم من اختار الغياب، وأنهم من يتمسّك بنظام دولي طبقي وغير عادل كما تقول الصين، يقوم على لغة الاحتكار والابتزاز والتدابير أحادية الجانب، ولا يريدون نظاماً عالمياً أكثر عدلاً وتشاركية.

والمعنى أن الاستعراض العسكري بالنسبة للصين يبعث رسالة مفادها بأنها قادرة على حماية أمنها ومنجزاتها لو تعرّضت للتهديد من القوى الكبرى الباحثة عن الاستئثار بالفوائد والمكاسب، لكن تلك القوى هي التي تريد أن تقرأ خطوات الصين تهديداً ووعيداً، وتروّج هذه الفكرة كما لو أنها الوحيدة التي يحقّ لها تطوير أسلحتها وجيوشها. يؤكّد هذا أن الولايات المتحدة أرادت دائماً من الصين أن تعود إلى مرحلة ما قبل عام 2015، حين لم تكن مشغولةً إلا بالتجارة الدولية وجذب الاستثمارات الأجنبية، ولم تكن تفكّر بتغيير النظام العالمي ولا بالنفوذ الدولي عبر المشروعات الاقتصادية وطرق النقل وإنشاء البنى التحتية وتطوير الموانئ. لكن الصين تغيّرت إلى الحد الذي لم يعد ممكناً معه الرجوع إلى الخلف، وتلك فكرةٌ نوّه إليها الاستعراض العسكري في 2015، وقطع بها الاستعراض العسكري في 2025.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى