كلمة فيدرالية مأخوذة من المصطلح (Federalism) ويعود أصلها للمصطلح اللاتيني (Feuds) وتعني المعاهدة أو العقد، أما مصطلح (Statefedral) فيقصد به الدولة التعاهدية أو الاتحادية. وقد ذكرت باللغة العربية بعدة صيغ على النحو التالي: “الدولة الاتحادية“، “الاتحاد المركزي”، “الدولة الفيدرالية”، “الاتحاد الفيدرالي”ـ وتعتبر اللامركزية السياسية شكلاً من أشكال (الاتحاد الفيدرالي).
والفيدراليّة شكلٌ من أشكال الحكم، يتمّ عبره تقاسمُ السلطة بين الحكومة المركزية وبين وحداتٍ إداريةٍ أصغر (ولايات، أقاليم) نتيجةً -في العادة- لرغبة هذه الولايات أو الأقاليم في الاتحاد بدولةٍ واحدة، مع رغبة كلٍّ منها في المحافظة على استقلالها، عبر بعض القوانين والسياسات المحليّة. وتُعرف الفيدرالية أيضاً بأنها: “دولة واحدة مكونة من ولايات أعضاء، متحدة في ظل دستور عام، يوزع السلطة بين الولايات والحكومة المركزية المشتركة، بحيث يضمن للولايات المتحدة حكم وإدارة معظم أمورها الداخلية، بينما تتولى الحكومة المركزية المشتركة إدارة العلاقات الخارجية للدولة، وبعض الأمور الداخلية للولايات ككل”. يبلغ عددُ أعضاء الأمم المتّحدة 193 دولة، منها 28 دولة فيدراليّة، يسكنها 40% من مجموع سكّان العالم.
مطالبات الفيدرالية بعد الثورة
كانت القوى القومية الكردية في سوريّة هي أول من طرح شعارات ومطالب نحو جعل سورية دولة فيدرالية، أو دولة اتحادية (تقليداً للتجربة العراقية)، وذلك بعد اندلاع الثورة السورية سنة 2011، وقد أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي -التابع للعمال الكردستاني- لأكثر من مرة عن قيام إدارة ذاتية، وكذلك فيدرالية، في شمال شرق سورية، وذلك بشكل أحادي منذ عام ٢٠١٣ ودون اعتراف أي طرف سوري بذلك، وكذلك دون اعتراف إقليمي أو دولي بما جرى الإعلان عنه. فقد مثلت مطالب من هذا النوع خروج عن محددات وأهداف الثورة، فقد وضعت الثورة السورية منذ انطلاقتها الخطوط العريضة لمطالب وإرادة الشعب السوري (حرية، كرامة، إسقاط النظام القمعي) وكل ذلك تحت صرخة شعبية واحدة (واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد).
النظام من جهته و الذي طالما سعى لخلط الأوراق، وإثبات أن الثورة ليست ثورة شعبية، وأن شعار الشعب السوري واحد غير واقعي، فقد سعى لتشجيع ظهور أي حركات أو مشاريع مؤدلجة قادرة على إحداث صدام مع المشروع الوطني، وعلى إحداث شرخ في المجتمع وأزمة عدم الثقة، مستفيداً من إرثه في هذا الجانب ومحاولته طيلة فترة حكمه اللعب على التنوع الديني و الاجتماعي، والعشائري، والطائفي، وبالتالي حاول النظام عرض صورة المجتمع المتناقض المتصارع، و بأن هناك صراع أهلي بين العرب والأكراد في الشمال، وبين أهل الجبل الدروز وأهل السهل في الجنوب، وبين المسيحيين والمسلمين من جهة، والسنة والعلويّة، …الخ.
لقد شجع النظام ظهور أخطر مجموعتين مسلحتين على الساحة السورية، هما داعش والعمال الكردستاني، واستخدم كلاهما لضرب المعارضة السورية والجيش الحر، وجعل الأمر أمام السوريين والأطراف الإقليمية والدولية كذلك، بأن البديل عن النظام سيكون فوضى ومشاريع تهدد المنطقة وأبرزها:
أ- دولة خلافة إسلامية راديكالية متطرفة (داعش، النصرة) أنموذجاً.
ب- كانتونات وفيدراليات وحكم ذاتي كما جاء في مشروع (فيدرالية روجافا).
مبادرة من أجل جمهورية سورية اتحادية
لقد أطلق مجموعة من السوريين في أيلول / سبتمبر 2019 مبادرة تحت عنوان (من أجل جمهورية سورية اتحادية). تألفت المبادرة من عدة بنود، كلها تتمحور حول مسألة إعادة تشكيل التقسيمات الإدارية، بما يسمح بظهور أقاليم سورية بدل المحافظات القائمة، تشكل الأقاليم بمجموعها سورية اتحادية، وهذا يعني أنها ستكون بنفس الوقت جاهزة لأي مشروع تقسيمي وفق صيغة الأقاليم المقترحة التي لكل منها حكومة وعاصم. خاصة وأن المبادرة عملياً، تغيب الشعب السوري وهويته وانتماءه بوصفه شعباً واحداً، وتفترض صيغة بديلة تجعل منه شعوب سورية، وتجعل من سورية بلداً متعدد القوميات والثقافات، وهذا فيه مغالطات كثيرة تتجاهل حقيقة أن التنوع الديني والطائفي ووجود أقليات لغوية، لا يلغي حقيقة المشترك الأكبر للشعب السوري المتمثل بتراث العروبة، والبعد الحضاري الإسلامي الذي يمثل إرثاً لجميع المكونات الاجتماعية والأقليات الدينية والطائفية واللغوية في سورية وجميع البلدان العربية.
لماذا لا تشكّل المبادرة مشروعاً وطنياً؟
دعونا نقتبس فقرة واحدة في هذه المبادرة وندقق فيها، ليتضح معنا حجم الكارثة التي أطلق عليها البرقاوي ومجموعته بالمبادرة، وسأقتبس هنا الفقرة السادسة والتي لا مناص من سوقها كما وردت:
” تقوم الجمهورية السورية الاتحادية على توزيع إداري يأخذ بعين الاعتبار الوقائع الجغرافية والثقافية والاقتصادية، بعيدا عن التمييز القومي والطائفي، مع مراعاة خصوصية المكونات القومية وشعوب المنطقة، وضمان حماية حقوقهم التي تم انتهاكها في عهود الاستبداد تحت سياسة الاضطهاد والإقصاء التي طالت الكرد الذين يعيشون على أرضهم التاريخية وكذلك حال العرب والسريان والآثوريين والتركمان والقفقاسين، بحيث تضم الجمهورية الاتحادية أقاليم جغرافية متآخية مرتبطة بعضها بمركزية سياسة واحدة هي العاصمة دمشق”. انتهى الاقتباس
الملاحظات على ما سبق:
أ- ماذا نفهم من توزيع إداري يأخذ بعين الاعتبار الوقائع الجغرافية والثقافية والاقتصادية بعيدًا عن التمييز القومي؟ في الشمال السوري مثلاً كيف يمكن توزيع المنطقة إداريًا وفق الوقائع الثقافية ودون تمييز قومي؟ خاصة أن المنطقة التي تتوزع فيها الأقليات الثقافية اللغوية هي مناطق مختلطة بالأساس ولا تشكل أي من الأقليات اللغوية حالة معزولة مناطقياً يمكن أن تحقق حالة إدارية منفردة بذاتها.
ب – ماذا نفهم من عبارة خصوصية المكونات القومية وشعوب المنطقة؟ هل نتحدث في سورية عن شعب سوري يضم أقليات لغوية ودينية وطائفية أم شعوب؟ أليست هذه العبارة التي اقترحها الروس وقبلهم جماعة حزب الاتحاد الديمقراطي التابع للعمال الكردستاني (قسد، مسد)؟
ج- لماذا تسمح هذه المبادرة بتمرير المصطلحات والرسائل الإيديولوجية المغلوطة التي تحمل تبعات سياسية غير مبررة، مثلاً عند الحديث عن الاضطهاد والذي يفترض أن يبرز في مبادرة وطنية كحالة استبداد عانى منها جميع السوريين، تأتي المبادرة لتضع درجات وتمييز لهذا الاضطهاد بما يبرر مستقبلاً مشاريع غير وطنية ظهرت بوضوح بعد اندلاع الثورة. سأقتبس مثالاً من المبادة التي ورد فيها: “سياسة الاضطهاد والإقصاء التي طالت الكرد الذين يعيشون على أرضهم التاريخية وكذلك حال العرب والسريان والآثوريين والتركمان والقفقاسين”.
هذا الفقرة هي استنساخ من خطاب القوى القومية الكردية وخاصة بعد الثورة، و التي تتحدث عن وجود اضطهاد خاص ومميز ومضاعف بحق الأكراد يختلف عن اضطهاد باقي المكونات السورية، ثم يأتي هنا أثناء الحديث عن اضطهاد الأكراد استخدام مصطلح الذين يعيشون على أرضهم التاريخية وهذا ما تحرص جميع الأحزاب الكردية على ذكره في أدبياتها ورؤاها السياسية، وعلى أساس هذه المصطلحات مجتمعة تطرح القوى الكردية مطالبها بحق تقرير المصير الذي ينطبق على الشعوب التي تعيش على أرضها التاريخية وتتعرض للاضطهاد من قبل المحتلين والمستعمرين!
وبالتالي تمرير هذه المصطلحات ضمن أي مبادرة سورية، ليس عبثيًا على الأقل من الأطراف التي تصر على تضمينه، والتي لا نشكك بوطنيتها، لكننا نشكك بتحليلها للأمور على نحو يحاول أن يأخذ الأمور باتجاهات رومانسية ومجاملات، لا يمكنها أن تحقق البديل الحضاري للمشروع السوري الذي لا يمكنه أن يقوم بتجاهل انتمائه لمحيطة العربي والإسلامي من جهة، وكذلك واقع سورية الجيوسياسي والديموغرافي الذي لا يسمح بتقسيم سورية لأقاليم على أسس ثقافية أو لغوية أو دينية. وبالتالي تقديرنا لكل مبادرة سورية وطنية، لا يجعلنا نحرص على أن تكون واقعية وموضوعية وجامعة لمصلحة عامة وليس لمصلحة جماعات وإيديولوجيات ضيقة.
د – يلاحظ من خلال المبادرة تقسيم الشعب السوري إثنيًا ولغوياً (قومياً) وتجاهل التقسيمات الأخرى الطائفية التي ربما تمثل الشكل الأعمق في التأريخ للحالة الاجتماعية السورية !!.
ط – يلاحظ من هذه الفقرة أيضًا بأن هناك خلط بين المستويات، فالفقرة بدأت بالأساس بمسألة التوزيع الإداري الجديد وعرجت على مسألة حقوق الشعوب وانتهت بشكل الدولة بمركزية سياسية وعاصمتها دمشق!
هذه الفقرة نموذج فقط عن العقلية التي تم بموجبها صياغة هذه المبادرة، التي حاولت تمييع هويّة الشعب السوري، وتصويره على أنه شعوب شتى، وأن مشكلته هو في شكل الدولة، وأن الحل يكمن في إعلان فوري وعاجل للجمهورية السورية الاتحادية، وتتهم المبادرة في الفقرة الثالثة بأن هذا الإعلان ليس حالة فريدة، بل سبقتنا إليه شعوب عديدة عندما استشعرت خطر التفكك والزوال!
و- المغالطة الكبرى في هذه المبادرة هي في المقارنة بين سورية التي هي بالأساس دولة بسيطة وتتكون من شعب سوري واحد يتضمن أقليات لغوية ودينية ومذهبية، وبين تجارب شعوب أخرى كشعوب الاتحاد السوفييتي السابق مثلًا، التي كانت تعتبر نموذجًا واضحًا للدولة المركبة التي تتألف من أقاليم مترامية الأطراف، وشعوب ولغات وثقافات مختلفة لا يجمعها تراث مشترك، وبالتالي عندما تفكك الإتحاد السوفيتي، لم يمنع ذلك بعض دوله بالاستمرار في دولة اتحادية، شكلت ما يعرف بروسيا الاتحادية اليوم التي تضم ٢٢ جمهورية و ٨٥ كيان و ٢٧ لغة إلى جانب اللغة الرسمية!
ختاماً
لا بد من الاعتراف، بأن الثورة السورية انحرفت منذ سنوات عن مسارها، يجب أن نعترف بأن مجابهة النظام لم تعد أولوية عند الكثير من أطياف المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري، بل بات التناحر الداخلي، والتخندق خلف مصالح الداعمين هو من يحدد مواقفها وتحركاتها ومواقعها، فأما الشق العسكري فقد خسر كل رهاناته، وفقدت البنادق بوصلتها وقرارها، وباتت المجموعات والفصائل رهن إشارة الداعمين الإقليميين أو الدوليين، أما المعارضة السياسية، فيبدو أنها استعجلت الخصام على المحاصصات، وأظهرت ضعفاً في الأداء، ولم يبرز تغليبها للمصلحة الوطنية كما تقتضيه الشعارات والمبادئ المعلنة.
إن تعزيز بحث مبادرات ومشاريع تكرس حالة التقسيم التي ساهم النظام بها عبر ممارساته الطائفية والانتقائية خلال نصف قرن، هو حرف للثورة عن مسارها وأهدافها، ونقل المسألة من مواجهة استبداد وتسلط نظام طائفي مافياوي مدعوم من إسرائيل وروسيا وإيران والغرب بما فيه أميركا، إلى مسائل فرعية لا يمكن بحثها قبل تحقيق الحد الأدنى من مطالب الشعب السوري.
أنا شخصياً ضد هذه المبادرة دون أن أشكك بشخوصها ومن يقف وراءها، لكن باختصار هذه المبادرة غير واقعية وتفتقد للموضوعية في معرفة الواقع السوري الاجتماعي والديموغرافي والجيوسياسي، وهي على أي حال لا تمثل طموح الشعب السوري، ولا التضحيات التي بذلها السوريين، بل أزعم أنها تهدف لشرذمة سورية وتؤسس لعملية تقسيم المجتمع السوري، وتعزيز الشرخ الاجتماعي، وترسم ملامح لكيانات وأقاليم سورية تساهم في تعقيد المشهد وليس في إيجاد حلول للحالة السوريّة الراهنة.
من ادق ماتم نشره..
في نقد المبادرات والطروحات التي تزعم انها تبحث عن مخرج للازمة السورية..
متناسية الثورة وتضحياتها في سبيل نيل الحرية والكرامة والسيادة والخلاص من عصابة الاسد العميلة..
مبادرة فاشلة إن لم تكن مغرضة وخلفها إما قوى جاهلة او قوى ذات أغراض ايديولوجية او عنصرية ، تلبس رداء تمزق في ظل ظروف إقليمية ودولية طامعة .