نقد تخوّفات بعض التيارات الإسلامية من حيادية الدولة

عبد الله تركماني

إنّ الكثيرين لا يدركون ماهية العلمانية ومدى أهميتها على مستوى تحديات العصر، وربما كان السبب في رفضهم لها هو خشيتهم من أن تكون مرادفاً لمعاداة الدين. غير أنّ هذا الخلط لا أساس له، إذ من شأن العلمانية أن تحرر الدين من استغلال السلطة له، وبالتالي فهي تقوّي بُعد القناعة الفردية الحرة في العقيدة الدينية، من خلال فك الارتباط بين الدين والسلطة. بل إنّ العلمانية، في جوهرها، ليست سوى التأويل الحقيقي والفهم الصحيح للدين، على الأقل في جانب المعاملات والقيم العامة التي يحملها، أي مقاصده القيمية.

لقد تصدى جورج طرابيشي للذين ينكرون على العلمانية ضرورتها في المجتمعات الإسلامية، أو الذين يحصرون مطلبها بالأقليات غير الإسلامية، كما قال محمد عابد الجابري. إذ إنّ العلمانية آلية لتسوية العلاقات، لا بين الأديان المختلفة فحسب، بل كذلك بين الطوائف المختلفة في الدين الواحد، وهذا ما يجعلها أكثر من ضرورة في سوريا الحاضنة لتعدديات طائفية ومذهبية. ولعل الصراعات المذهبية والطائفية، التي شهدتها سوريا في مجزرتي الساحل والسويداء، خير حافز لاعتبار العلمانية أحد الطرق المؤدية إلى السلم الأهلي.

وإذا ما انتقلنا إلى التاريخ الإسلامي الفعلي، سوف نجد أنّ المناظرات الثرية التي كانت تجري في بلاط السلاطين المسلمين كانت تحثّ السلطان على الاقتناع بأنّ الدين وازع أخلاقي اجتماعي. حتى أنّ القاضي والفقيه الماوردي، صاحب الأحكام السلطانية، ميّز العلاقة بين الدين والسلطة السياسية، وأدرك الفرق بين التعليل العقلي والإيمان الديني المؤسس للأخلاق.

وهكذا، تفترض العلمنة أنّ ثمة صيرورة تاريخية تؤدي إلى انحسار الدين تدريجياً عن قطاعات مجتمعية واسعة، يتمثل أهمها في نشوء منطق الدولة الذي يتغلب على الاعتبارات الدينية، حيث يصبح الحكم السياسي على الأمور نابعاً من مصالح الناس في الدنيا.

لا شك في أنّ نشوء تيار إسلامي مدني، يؤمن بفصل الدين عن الدولة، وبدعم الدولة الوطنية الحديثة الحيادية التي ترعى كل الأديان وتصون مقدساتها، وتضمن حقوق مواطنيها من دون استثناء، هو أمر بالغ الأهمية في سوريا الجديدة.

دروس بعض التجارب الإسلامية ذات النزعة العلمانية

شغلت إشكالية الدولة والمواطنة علماء السياسة، وعكفت النخب الفكرية والسياسية منذ سنوات على دراسة الأطروحات ذات المرجعية الإسلامية، خاصة التجارب ذات النزعات العلمانية مثل: حزب العدالة والتنمية في تركيا، حركة النهضة التونسية، حزب العدالة والتنمية المغربي، والتجربة الماليزية. ولا شك في أنّ نشوء تيار إسلامي مدني، يؤمن بفصل الدين عن الدولة، وبدعم الدولة الوطنية الحديثة الحيادية التي ترعى كل الأديان وتصون مقدساتها، وتضمن حقوق مواطنيها من دون استثناء، هو أمر بالغ الأهمية في سوريا الجديدة.

إذ إنّ التمايز بين الدين والدولة، بمعنى إدراك متطلبات الدولة العملية التي لا تقتصر على كون الدولة أداة بيد الدين، أمر أساسي. ففي الدولة الأموية انتصر منطق السياسة والسلطة على حماسة الخلافة الدينية، وبدأ خضوع الدين للسياسة عملياً مع تحوّل الدولة إلى مُلك عضوض يورّث من الأب إلى ابنه.

كما أننا مع حزب العدالة والتنمية التركي نكاد لا نميّز فيه شيئاً مخالفاً لصفة الحزب العلماني، فبرنامجه برنامج انتخابي سياسي صرف، لا وجود لمسحة دينية فيه، وهو يعلن التزامه بالتوجهات العلمانية للدولة التركية، ويفصل الدين عن السياسة. وذلك لا يعني فصل الدين عن المجتمع، المتطور والنامي بسرعة كبيرة بمنظماته وتياراته وقواعد تعامله وقوانينه الضابطة.

وحول إمكانية انسجام الإسلام مع مصطلحات مثل العلمانية والديمقراطية، أكد المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم أنّ الإسلام التاريخي العملي والحياتي قادر على الانسجام معها، لأنه انسجم في وقت سابق مع مجتمعات البداوة والإمبراطورية، كما انسجم فيما بعد مع الدولة الصناعية الحديثة. لكن إذا أخذت الإسلام بمعنى نظام مثالي مغلق، يعني فقط مبادئ معينة، فهذا لا ينسجم إلا مع نفسه.

لا يكفي التمييز بين المجالين الديني والدنيوي لفهم فعل الدينامية الناجمة عن تمايزهما في المجتمعات، بل سيكون ضرورياً أن نميّز بين أنماط التدين والفئات الاجتماعية، وأنواع الدولة، ودرجة تطور المجتمعات.

وهكذا، يبقى التحدي الأساسي المطروح على الجماعات الإسلامية هو القدرة على إدارة الحقل الديني في ثلاثة اتجاهات:

  1. حيادية الدولة إزاء تعددية تأويلات النص المرجعي المقدس، بدلاً من فرض سقف تأويلي محدد له.
  2. الحفاظ على التنوّع الديني في البلدان التي تضم مكونات غير مسلمة، ما يقتضي تكريس فكرة المواطنة المتساوية.
  3. النأي بالمسألة الدينية عن صراعات الشرعية السياسية والتجاذبات الأيديولوجية، وتحويلها إلى سياج معياري ضامن للقيم المدنية المشتركة.

وبذلك، تتواصل عملية التمفصل بين الدين والدولة لمصلحة الدولة ولمصلحة السياسة، بحيث تبدأ العلمنة بتحوّل الدولة إلى العنصر الأقوى في مركّب دين/دولة، خاصة بعد أن انتقلت الوظيفة المتعلقة بالخير العام إلى الدولة، التي تقيم سلطان الله على الأرض.

وفي الواقع، لا يكفي التمييز بين المجالين الديني والدنيوي لفهم فعل الدينامية الناجمة عن تمايزهما في المجتمعات، بل سيكون ضرورياً أن نميّز بين أنماط التدين والفئات الاجتماعية، وأنواع الدولة، ودرجة تطور المجتمعات.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى