في كل مناسبة وذكرى تتعلق بتجربة حكم جمال عبد الناصر (1952 – 1970) اعتاد المؤيدون والخصوم على تكرار قصائد المديح والرثاء، أو قصائد الهجاء وخطب العداء لهذا الراحل الكبير الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. لقد أصبح العرب، وما زالوا، منذ نصف قرن ينقسمون تقليديا وروتينيا الى معسكر مع ناصر، ومعسكر ضد، قبائل تؤيد، وقبائل تندد.
وفي كلا الحالتين تتبدد الموضوعية والمنطقية والإنصاف في السجالات والجدالات التي ما زالت مستمرة ومستعرة. ومن النادر أن خرج أحد من المعسكر المعادي ليطلق حكما موضوعيا منصفا بحق عبد الناصر، ومن النادر أيضا أن ظهر من معسكر المؤيدين من يعدد ويحدد أخطاء عبد الناصر وخطاياه بشكل علمي وعقلاني.
ولعلنا نتفق مبدئيا على أنه لا وجود في التاريخ كله لزعيم معصوم عن الخطأ والفشل، ولا وجود لزعيم كانت كل أعماله وقراراته صائبة بشكل مطلق، وكل معاركه انتصارات، وكل مواقفه سديدة رشيدة، ولا وجود لزعيم كانت كل أعماله وقراراته سقطات واخفاقات.
ولا شك أن هذا ينطبق على تجربة جمال عبد الناصر الكثيفة الغنية بالأعمال والانجازات والتغييرات الثورية، في فترة غير مديدة، بمقاييس الزمن والتاريخ.
في الذكرى الخمسين لرحيل الزعيم العربي الأبرز في العصر الحديث، سأقوم بتسليط الأضواء على ما أعتبره من وجهة نظري (الأخطاء الكبرى في تجربة جمال عبد الناصر السياسية). وأتذكر أنني عام 1990 كتبت شيئا من هذا في مجلة (النشرة) التي كانت تصدر في العاصمة اليونانية أثينا، وأرسلت المقال الى المرحوم خالد جمال عبد الناصر طالبا منه قراءة المقال وإبداء رأيه به. وكان هدفي أن اختبر سعة فكره وصدره رحمه الله، وعندما كلمته لاحقا وجدته سعيدا بالمقال، وقال لي: نحن بحاجة للمراجعة وإعادة النظر والنقد العلمي، وأتفق معك في أن تجربة عبد الناصر تعرضت لمحاولة أسطرة وتحنيط، ومحاولة تشويه وهجوم واغتيال متكرر.
فيما يلي سأشير الى ما أعتبره أخطاء وخطايا كبيرة لجمال عبد الناصر الزعيم، والقائد السياسي، ورجل الدولة، أثناء تجربته الفذة في الحكم والقيادة وإدارة الدولة:
أولا – تردده حيال جريمة الانفصال عام 1961، في وقت كان عليه أن يتدخل عسكريا على الفور وبلا تردد في الاقليم الشمالي دفاعا عن الجمهورية العربية المتحدة، وألا يسمح بالانفصال. كما يفعل أي قائد أو رئيس دولة مسؤول عن حماية كيانها. مثلما فعل جورج واشنطن عندما تمردت بعض الولايات الاميركية وحاولت الانفصال.
كان انقلاب النحلاوي يوم 28 سبتمبر 1961 مؤامرة جسيمة مدبرة من دول أجنبية عربية وغربية، وخيانة موصوفة بلا شك. وكان يجب على رئيس الدولة وفقا للدستور استعمال كل سلطاته الاستثنائية للمحافظة على دولة الوحدة، بما فيها استعمال الجيش والقوة. وكان يملك شرعية ذلك دستوريا وسياسيا، ولن يجد في العالم من يحتج عليه، خصوصا بعد أن أعربت غالبية الشعب السوري عن معارضتها للانفصال، ونزلت الى الشوارع في العديد من المحافظات السورية تتظاهر، وتطالب القاهرة بالتدخل لقمع الانقلابيين الانفصاليين. وانقسمت فرق الجيش السوري بين رافض وموافق. وبقيت عدة أيام على حافة صراع أهلي مسلح بين الطرفين. وقد أرسل عبد الناصر قواته من مصر عبر الجو وعبر البحر استجابة لدعوة قادة الجيش في الساحل السوري، ولكن عبد الناصر عاد وأمر قواته بالعودة وعدم القتال ضد الانفصاليين. أي أن (حالة تردد) سيطرت على الرئيس، وهي حالة اعترت مواقفه مرات عديدة خلال حكمه، وأصبحت صفة لصيقة بشخصيته.
لاحقا برر ناصر امتناعه عن استعمال القوة بأنه فضّل عدم إراقة الدماء، لتبقى الوحدة نموذجية. ولكن ناصر خان مسؤوليته ومشروعه القومي، وعطل بصيرته التاريخية ويرى أن سقوط قتلى مهما بلغ عددهم دفاعا عن بقاء الوحدة، هو ثمن زهيد لبقاء أول تجربة عظيمة للوحدة في تاريخ العرب الحديث.
في عام 1986 روى لي المناضل السوري الوحدوي أديب النحوي الذي كان زعيما شعبيا في حلب، يحظى بإجماع جماهيري طاغ، وكان يقود المقاومة الشعبية ضد الانفصال، رغم بحث الاستخبارات العسكرية المحموم عنه لإعدامه بموجب حكم صادر عن سلطة الانفصال بسبب دوره في مقاومتهم، فكلف عبد الناصر مخابراته بالوصول الى النحوي في حلب، ونقله للقاهرة ليسمع الرئيس منه تقريرا عن الأوضاع الميدانية وتقدير الموقف سياسيا.
قال لي النحوي رحمه الله أنه وافق على الخروج من حلب والسفر الى مصر على أن تضمن الاستخبارات المصرية إعادته الى حلب ليواصل دوره. وجرى تهريبه الى بيروت ثم الى مصر، وقابل الرئيس، وفي الحديث الصريح بينهما كان عاتبا لائما، وأكد له أنه ارتكب خطيئة كبرى بعدم التدخل العسكري الحازم لقمع الانقلابيين الخونة. وتابع النحوي روايته: كان عبد الناصر يستمع وعلامات الحزن والتأثر بادية على وجهه، ولم يقاطع محدثه إلا لإلقاء بعض الأسئلة عليه. وعندما أنهى اديب حديثه، اقتنع عبد الناصر بأنه قد أخطأ، واعترف لضيفه بندمه على قراره الخاطئ!
ضاعت الوحدة، وكان ضياعها مقدمة لهزيمة 1967 أمام العدو الاسرائيلي. ومقدمة لاستيلاء الطائفيين على سورية عام 1970، ومقدمة لتحقيق (المشروع العلوي السياسي) بقيادة حافظ الأسد وعصابته، ولو بقيت الوحدة لكان للتاريخ مسار مختلف حتما.
ثانيا – إحجامه عن تنفيذ المشروع الذري – النووي: إذ كان على عبد الناصر أن يمضي قدما وبلا تردد في البرنامج الذري الذي بدأه بعد تأميم القناة عام 1956، بشكل متزامن مع برنامج اسرائيل. وكانت مصر قد تمكنت من حيازة القدرة العلمية، وتوفرت لها الشروط الدولية، من خلال علاقاتها الممتازة بالاتحاد السوفياتي، واستعداد موسكو لتقديم الدعم التقني والمادي. إلا أن جمال عبد الناصر ركز اهتمامه على بناء السد العالي، وأعطاه الأولوية، وقرر إبطاء تنفيذ البرنامج الذري، بسبب عدم توفر الأموال، مما أتاح الفرصة لإسرائيل إنتاج قنبلتها الذرية، وحسم سباق التسلح وامتلاك عامل التفوق على العرب. وهو تطور ترتبت عليه نتائج تاريخية كثيرة، بدأت بعدوان 1967، وتواصلت في حرب 1973، حين كان العدو على وشك استعمال سلاحه الذري ضد مصر إذا هددت قواتها أمن اسرائيل بحدود 1948.
بالمقارنة، يمكننا القول إن ناصر كان عليه أن يفعل ما فعله زعماء باكستان بعد هزيمتهم أمام الهند في حرب 1971. إذ قرروا الحصول على السلاح النووي مهما كان الثمن، لكيلا يسمحوا للهند بالتفوق عليهم، وهذا ما نجحوا فيه، ووفر لهم عامل الردع وتوازن القوى. باكستان لم تكن أغنى من مصر، ولكن إرادة قيادتها السياسية كانت أقوى من ارادة عبد الناصر في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، حيث كان عليه اعطاء الأولوية للأمن القومي، ويقدمه على أي شيء آخر دفاعا عن مصر والعرب جميعا.
ثالثا – انجراره لفخ حرب 1967: أصبح معروفا الآن أن عبد الناصر لم يكن يريد الحرب مع اسرائيل في عام 1967، وكان يقول بشكل قاطع إن مصر غير مستعدة للحرب، ويريد بناء مصر وتنميتها وتقويتها قبل أن يواجه العدو. وهو (تقدير موقف) صحيح ومنطقي، إلا أن ذكاءه وحسه السياسي المدرب خانه، وجعله يقع بسهولة في فخ عملت اسرائيل على البدء بإعداده منذ أن اضطرت للانسحاب من سيناء عام 1956، وخططت لحرب تقضي على زعامة عبد الناصر، واجهاض مشروعه التحرري والتنموي القومي، بالاتفاق مع أميركا. واستعملت النظام السوري في حبك مؤامرتها وفخها لجر عبد الناصر. والغريب أن ناصر وقع في الفخ، رغم معرفته المسبقة بألاعيب حكام دمشق، وعدائهم له.
انبنت الخطة على ادعاء هؤلاء وجود تهديدات اسرائيلية، وحشود على حدودهم، فيهب عبد الناصر للدفاع عن سورية تدفعه زعامته القومية ومسؤوليته وغيرته على سورية. ولما وقعت الحرب انسحب بعثيو دمشق، وتخلوا عن ناصر وتركوه فريسة للعدو! وهذا ما حصل بحذافيره، ورغم أن السوفيات نفوا له وجود حشود اسرائيلية على حدود سورية، وحذروه من الانجرار للحرب، ورغم يقينه بعدم جاهزية جيشه للحرب. لعب ناصر لعبة حافة الهاوية، فحشد قواته في سيناء، وطرد قوات الطوارئ الأممية من حدود الهدنة مع اسرائيل، ومضى في الاستعداد للحرب بشكل مفاجئ ومتسرع كما كانت تتمنى اسرائيل. وكان العاهل الأردني قد تجاوز خلافاته الحادة مع ناصر، وسافر سرا للقاهرة في أواسط مايو ليحذر ناصر من الوقوع في الفخ الاسرائيلي وقال له إن هدف العدو ضرب مصر، لا ضرب سورية، وضربك أنت لا ضرب بعثيي دمشق. وكان ناصر يعلم ارتباطات الملك حسين الوثيقة بالاستخبارات الأميركية، إلا أن الزعيم الكبير أصر على المضي الى الشرك المعد له بقدميه وبإرادته الفردية، وسقط فيه، فكانت الكارثة بانتظاره، بينما بقي قادة سورية بعيدين عن دخول الحرب، حفاظا على نظامهم، آملين التخلص من الزعيم الذي يشكل منافسا لهم على مستوى الزعامة العربية، وسلم حافظ أسد هضبة الجولان بلا حرب ولا قتال بموافقة أعمدة النظام كلهم.
رابعا – تأخر ناصر عن إعادة الديمقراطية: في بداية ثورة 1952 كان برنامج الضباط الأحرار إجلاء الاحتلال البريطاني، والقضاء على النظام الملكي الفاسد، وتصحيح الأوضاع في البلاد، ووضع دستور جديد، ثم إعادة السلطة للأحزاب السياسية. بيد أن البرنامج اصطدم بمواقف الأحزاب الرافض لإزالة الملكية، والرافض للإصلاح الزراعي، والرافض لأي تغيير عميق، لأن الأحزاب كانت جزءا عضويا من منظومة الفساد وموالية للاحتلال وللملكية. مما أجبر الضباط على حل الأحزاب ومنع الحزبية مثلها مثل النظام الملكي، وتابعوا إصلاحاتهم وبرامجهم للنهاية، وحكموا البلاد.
كان عبد الناصر يرى أن العودة للديمقراطية السياسية يتطلب تغييرا اجتماعيا عميقا لكي يكون للحريات ومزاولة العمل السياسي والحزبي اساس اجتماعي موضوعي. ووافقت النخب السياسية والفكرية على رؤيته، منتظرين منه إنهاء المرحلة الاستثنائية، في أقرب فرصة. وكان يمكنه العودة التدريجية للحياة الديمقراطية فعلا في أواسط الستينيات، وتشير (محاضر جلسات القيادة السياسية) في الاتحاد الاشتراكي الى أنه موافق ومدرك لأهمية العودة للتعددية السياسية، والسماح بظهور معارضة حقيقية من اليمين، والسماح بالمشاركة في الحكم والسلطة، ولكنه لم ينفذ هذه الرؤية المتقدمة، وواصل الحكم الفردي حتى رحيله.
وتكرر الحديث في اجتماعات عديدة بشكل أكثر الحاحا عن ضرورة العودة للديمقراطية والتعددية السياسية، وحرية التعبير، في أعقاب هزيمة 1967 التي اعتبرت نتيجة حتمية لغياب الديمقراطية. ووافق ناصر على هذا الطرح، ولكنه لم يقم بأي خطوة عملية لتنفيذه، ومن يرجع الى حديث الصحافي الفرنسي اريك رولو عن لقاءاته مع ناصر ومناقشاته معه حول الديمقراطية، يلمس خشية الزعيم الراحل من العودة للديمقراطية قبل تحرير سيناء، وكان يعد بصورة غير رسمية بإعادتها بعد الحرب مع اسرائيل. ويؤخذ على ناصر حذره وتردده وتحفظه على التعددية السياسية والديمقراطية، مما سبب الكثير من النتائج المدمرة، بما فيها ضياع الثورة بعد وفاته، وفي مدة لم تزد على بضعة شهور في انقلاب السادات في منتصف شهر مايو 1971.
خامسا – مسؤوليته عن انتهاكات الاستخبارات لحقوق الانسان: وهي انتهاكات تضخمت، ولم يعرها عبد الناصر الاهتمام المناسب والفعال رغم شيوع وانتشار المعلومات عنها في الستينيات، وخاصة اعتقال وتعذيب المعارضين من اليسار واليمين، ومن الفنانين والكتاب، وإجبارهم على أفعال منافية للأخلاق (سعاد حسني مثلا)، واعتقال كثيرين، بلا أسباب موضوعية، أمثال لويس عوض ولطفي الخولي ومحمود أمين العالم وأحمد عبد المعطي حجازي.. إلخ
لقد أضرت هذه الانتهاكات للأسف بتجربة جمال عبد الناصر السياسية النموذجية ، وكان يمكن للرئيس وضع حد لها ، أو التقليل منها ، إلا أنه لم يفعل وظل حتى بعد هزيمة 1967 يتغاضى عنها ، ويسكت عن اعتقال كتاب بسبب مقالات تتضمن انتقادات سياسية ، وروى لي فاروق أبو عيسى الحقوقي السوداني الذي كان مقربا جدا من عبد الناصر ، ولا يرد له طلبا تقديرا لدوره الشجاع في ثورة 1964 ضد نظام عبود . قال لي أبو عيسى إن بعض يساريي مصر ومثقفيها طلبوا منه التوسط عند عبد الناصر للإفراج عن لطفي الخولي عام 1969 ، وعندما فاتحه ، اكفهر وجهه واحتدت لهجته ، وقام من الجلسة ، وغادر الغرفة رافضا إعطاء وعد أو جواب !
هناك قصص كثيرة عن انتهاكات الاستخبارات لحقوق المواطنين، تكشفت فيما بعد، وهي تسيء للأسف للزعيم الخالد.
رحم الله الزعيم الذي حقق انجازات هائلة كمًا ونوعًا ، إذ أنه هو الذي حرر الوطن العربي من الاستعمار القديم ، وبنى أكبر نهضة معاصرة في مصر ، وحقق الوحدة القومية بين العرب على مستوى الهوية والفكر والوجدان … أما بالنسبة لأخطائه وخطاياه فنقول بلسان بشار بن برد ( كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبهْ ) .
جمال عبد الناصر رحمه الله ،كان صادقاً في مشاعره وعواطفه ،وكان حريصاً على وحدة الأمة وتحررها ،وتحالفها مع عالم إسلامي واسع ،وجميع الدول التي تنشد السلام العالمي .
لكن مشكلته تكمن في :
– أنه استسلم لمدائح وإطراء حاشية كاذبة منافقة .
– كان محدود الثقافة والرؤية اقتصادياً واجتماعياً .
– كان يثق بالكلام ، وبعيداً عن الشك العقلي الذي يبحث عن اليقين .
وفي ذلك مقتلة وفشل لكل قيادة .
اللهم اغفر له وتجاوز عن سيئاته ،وعوض مصر والعرب بمن نحبه كما أحببناه ،و يكون فيه الخير لمصر وللبلاد العربية .