عن العلاقة بين سورية والعراق

مروان قبلان

هناك رابط ليس من السهل تأطيره، بشكل مقنع، نظرياً (في حقل دراسة النظم الإقليمية) بشأن العلاقة الخاصة، التي لا بد أن يلحظها أي قارئ لتاريخ المنطقة، بين سورية والعراق، وإن كنتُ أرى أن من الممكن تفسيرها جزئياً، في إطار آليات توازن ذاتية تحكم إقليم المشرق العربي. لا يفيد في فهم هذه العلاقة الضرب عميقاً في بطن التاريخ، كما يحلو لبعضهم أن يفعل، باستدعاء الصراع على السلطة بين الأمويين والهاشميين (عباسيين وعلويين)، أو البحث في جذر الخلافات الفقهية، ونظريات الحكم عند السنة والشيعة. بالعكس، يكرّس هذا الميل، المسكون بنظرة طائفية ضيقة، فكرة غير صحيحة عن تاريخ منطقتنا أنها أسيرة صراع أزلي، لا فكاك منه، بين الطوائف، والقبائل، والأديان. خصوصية العلاقة التي نقصدها هنا هي التي نشأت فعليّاً مع ظهور الكيانات السياسية الحديثة للبلدين، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، نتيجة اتفاقية سايكس- بيكو (1916)، التي تقاسمت بموجبها فرنسا وبريطانيا ممتلكات الدولة العثمانية في المشرق العربي، وتعديلاتها (1920) التي نقلت الموصل إلى العهدة البريطانية (العراق)، بعد أن كانت منطقة نفوذ فرنسية (سورية). ولما فقد فيصل الأول عرشه في سورية، بعد دخول الجيش الفرنسي دمشق عام 1920، عوّضه البريطانيون عن ذلك بتنصيبه ملكاً على العراق، الذي كان يطمح إليه أخوه الأمير عبد الله، الذي أقنعه الإنجليز بالتخلي عن محاولات استرداد سورية من الفرنسيين في مقابل تنصيبه أميراً، ثم ملكاً، على شرق الأردن. وعلى الرغم من خسارتهم لها، فإن الهاشميين، حكّام العراق والأردن، لم يستطيعوا نسيان سورية أبداً، فظلت مركزية في مشروع “الهلال الخصيب” الذي طرحه الوصي على عرش العراق، الأمير عبد الإله، وكذلك في مشروع “سورية الكبرى” الذي ظل يداعب طموح الملك عبد الله حتى اغتياله في القدس عام 1951.

بعد عام 1930 صارت المعاهدة العراقية – البريطانية التي منحت العراق استقلاله، وجعلته عضواً في عصبة الأمم، نموذجاً يُحتذى لدى القادة السوريين الذين ناضلوا للوصول إلى وضع مماثل مع فرنسا. واللافت، كما يشير باترك سيل في كتابه “الصراع على سورية”، أن الحكومة العراقية هي من تولّت دفع نفقات سفر وإقامة الوفد السوري، الذي قاده هاشم الأتاسي، إلى باريس للتفاوض على معاهدة 1936. وعندما ثار رئيس وزراء العراق، رشيد عالي الكيلاني، على الحكم البريطاني عام 1941، وجد انقلابه تعاطفاً كبيراً لدى السوريين، خصوصاً في ضوء دعوته إلى تحرير سورية ولبنان من الانتداب الفرنسي. خلال الأربعينيات والخمسينيات، صار العراق طرفاً رئيساً في الصراع على سورية، فدعم انقلاب سامي الحناوي الذي جسّد طموح حزب الشعب (الممثل لحلب) للوحدة مع العراق، كما نشأ صراع مرير مع مصر لضم سورية إلى حلف بغداد. وكانت الوحدة السورية المصرية أحد حوافز الجيش العراقي إلى إطاحة الملكية عام 1958، وطلب الانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة. وفي 8 فبراير/ شباط 1963، كان العراق أول بلد يصل فيه حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي تأسس في سورية، إلى الحكم. بعد ذلك بشهر فقط (8 مارس/ آذار 1963) وصل إلى حكم سورية. وعندما حصل انقلاب 23 شباط (1966) في سورية على القيادة التاريخية للبعث (ميشيل عفلق وصلاح البيطار) لجأ الأول إلى العراق وأقام فيه حتى وفاته أواخر الثمانينيات. ولأكثر من ربع قرن، تنافس جناحا “البعث” في سورية والعراق على شرعية تمثيل الحزب، وزعامة العرب. ومع سقوط “البعث” في العراق، مع الغزو الأميركي عام 2003، صار سقوط “بعث” سورية مسألة وقت. اللافت أكثر هو التداخل الذي حصل بين سورية والعراق خلال الثورة السورية، عندما أنشأت “دولة العراق الإسلامية” جناحها السوري (جبهة النصرة) التي وصلت نسختها الأخيرة (هيئة تحرير الشام) إلى الحكم في دمشق، فيما سقط مشروع “داعش” التي انطلقت من الرّقة السورية للسيطرة على الموصل وكل غرب العراق، وتعلن قيام “دولة الخلافة”، عام 2014، بعد إزالة الحدود بين البلدين.

في أول مقابلة تلفزيونية له بعد سقوط نظام الأسد، واستلامه الحكم في دمشق، قال أحمد الشرع إن تجربته في العراق (2005 – 2011) تدعوه إلى “فعل كل ممكن لتجنّب السيناريو الذي أدخل العراقيين في حالة احتراب أهلي مرير”(!). مدهش حقّاً مقدار التماثل بين البلدين إلى درجة أنك تستطيع أن تقرأ في حاضر أحدهما مستقبل الآخر. يمكن لأحدهما أيضاً، إن أراد، أن ينظر في المرآة ليرى صورة الآخر، معكوسة.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى