ديمقراطية الوهم في العراق

إياد الدليمي

                                                                                                   

لا يوجد اختلاف كبير في مفهوم الديمقراطية بين من نظّروا لها قديماً ومن وصفوها حديثاً، إلا في اختيار العبارات والألفاظ، فهي في جوهرها حكم الشعب نفسه، كما عرّفها أرسطو قديماً، والتي رأى فيها جان لوك نظام حكم مبني على موافقة المحكومين، وقال عنها أبراهام لينكولن إنها “حكم الشعب، بالشعب، ولأجل الشعب”. أمّا المناضل الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا فكان الأقرب إلى توصيف ما ينبغي أن تكون عليه الديمقراطية، حين قال: “الديمقراطية لا يمكن أن تزدهر إلا إذا تحقّق التوازن بين الحرية والمساواة”، فهو يرى الديمقراطية لا مجرّد عملية تصويت، بل منظومة قيمية تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة للجميع، وخاصّة الأقليات والمهمّشين.

ليست الديمقراطية صندوق اقتراع يعيد إنتاج السلطة، بل منظومة قيمية لتحقيق العدالة الاجتماعية

بالاستناد إلى هذه المفاهيم والتعريفات للديمقراطية، يمكن القول باطمئنان إن العراق، الذي سعت الولايات المتحدة إلى تحويله واحة ديمقراطية في الشرق الأوسط، لا يمتلك أياً من هذه المفاهيم الجوهرية، فما يوجد مجرّد صندوق اقتراع يعيد إنتاج الوضع السياسي الذي أفرزته العملية السياسية عقب الغزو الأميركي عام 2003، مع تعديلات شكلية لا تخفي عيوب النظام وسلبياته.
يعاني العراق اليوم من أمراض السلطة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فهو أسير قوى وأحزاب استحوذت عليه بدعم أميركي إيراني، وحوّلت “الديمقراطية” الأميركية مجرّد شكل بلا مضمون، بل قدّم العراق نموذجاً سيئاً للديمقراطية، وصار مضرب مثل عند الحديث عن مساوئها. في العراق، تُجرى كل أربعة أعوام انتخابات برلمانية، لا تغيّر شيئاً من الواقع سوى إعادة إنتاج المشروع الأميركي الإيراني، عبر وجوه سياسية ملّها العراقيون، ونماذج باتت رمزاً للفساد. ويكفي أن تتأمّل في ماضي هذا السياسي أو ذاك، ثم تنتقل إلى حاضره، لتدرك حجم الكارثة التي حلّت بالعراق.
نحو ثمانية آلاف مرشّح تقدّموا إلى انتخابات نوفمبر/ كانون الأول 2025، يتنافسون على 329 مقعداً برلمانياً. رقم يبدو لافتاً، وقد يراه بعضهم تجسيداً فعلياً للديمقراطية، غير أن الكارثة تكمن في أن هذه الانتخابات (إن جرت) لن تكون أكثر من تكرار للمكرّر وإعادة للسيناريو نفسه الذي خبره العراقيون منذ أول انتخابات عام 2005. لا جديد يُذكر، ولا قديم يُعاد، فالوجوه نفسها والكتل والأحزاب ذاتها تتنافس فيما بينها، وكلّ غريب يحاول دخول هذه المعمعة يُسحق إن رفض أن يكون جزءاً من المشهد العدمي. وفي إحدى المقابلات التلفزيونية قال أحد المرشحين إن تكلفة الفوز بمقعد في البرلمان المقبل قد تصل إلى نحو خمسة ملايين دولار أميركي، ولك أن تتخيّل كم تحتاج الكتلة الانتخابية من مال للحصول على 50 أو 60 مقعداً تؤهّلها لتكون قوةً وازنةً في هذا البرلمان، أمّا من أين سيأتي هذا المال، ولماذا يتم الإنفاق بهذا الحجم من أجل مقعد في برلمان يفترض أنه تشريعي، لا تنفيذي، فتلك مسألة لا يعرفها إلا نواب الكتل السياسية وقادتهم.
ليس هذا سوى غيض من فيض، فالوقائع (والأدلة) تفيد بأن العراق اليوم مقاطعات سياسية مالية، كل منها خاضع لسلطة حزب هنا أو هناك. أمّا البرلمان، فصار مكاناً لعقد الصفقات وتمرير المشاريع مقابل المال. بل إن بعض قادة الكتل السياسية يوزّعون المناصب بين المرشّحين التابعين لهم، فازوا في الانتخابات أم لم يفوزوا. فكل شيء هنا يجري وفق قانون الصفقات خلف الكواليس، وغالباً ما يُباع المنصب الوزاري لمن يدفع أكثر. وليس هذا سرّاً، بل هو ما يردّده كثير من الساسة ممّن خبروا كيف تُعقَد الصفقات وتُدار المساومات.
هناك اليوم كارثة كبيرة تتهدّد العراق وشعبه، فمنظومة الفساد الحاكمة أهدرت مليارات الدولارات (وما زالت)، والعراق في ظلّها يعيش على وقع عقوبات أميركية تقترب كلّما فشلت تلك المنظومة في محاربة الفساد. وليس حرصاً على مصلحة العراقيين ما يدفع أميركا إلى ذلك، بل إنها تحاول محاصرة إيران التي طالما كان العراق بالنسبة لها الرئة الأهم التي يتنفّس من خلالها اقتصادها.
تأسيس الديمقراطية بحاجة إلى مؤسّسات فاعلة قادرة على تعزيز مفهوم حكم الشعب نفسه. وبغير ذلك لن تكون هناك أيُّ ديمقراطية، حتى لو جرت الانتخابات كلّ عام، فالانتخابات التي لا تتيح صعود الكفاءات، التي لا تجعل الشعب يشارك فيها طواعية لأنه يعرف مهمّته ودوره، لن تكون أكثر من ديكور سيئ.

قدم العراق نموذجاً سيئاً للديمقراطية، وصار مضرب مثل عند الحديث عن مساوئها

هناك اليوم عزوف شعبي عن المشاركة في الانتخابات. يكفي أن نعود إلى انتخابات 2021، إذ أعلنت المصادر الرسمية أن نسبة التصويت بلغت 42%، فيما أكّدت منظّمات حقوقية أشرفت على العملية أن النسبة لم تتجاوز في أحسن الأحوال 20%. توظيف موارد الدولة، وتقديم الوعود للناخبين بالتعيين والعمل، وغياب الشفافية، وانتشار السلاح، وهيمنة القوى والأحزاب ذاتها على المشهد منذ 2005… كلها أسباب تجعل من أيّ عملية انتخابية محاولة جديدة لترسيخ حكم الفساد وسطوة السلاح.
العراق مقبل على كارثة، إذ لا ضوء يلوح في نهاية نفقه المظلم الممتدّ منذ 2003. فلا نخب قادرة على طرح رؤية، ولا قوى وطنية لديها القدرة على العمل تحت أزيز الرصاص والتهديدات بالقتل، في ظلّ فساد مستشري، ولا رغبةً شعبيةً بأن يكون هناك صوت يخرج من قاع اليأس ليعيد القطار إلى سكَّته، فقد جرّبت الجموع هذا الخيار، وقُمعت، وقُتل منها أكثر من ألف شخص وأصيب نحو 28 ألفاً، ومن بقي منهم شُرّد وطورد/ حتى اضطر إلى مغادرة البلاد. هذا الأفق المسدود قد ينفجر في لحظة ما لا تكون بعيدةً، خاصّةً مع تمادي تحالف المال والسلاح والسلطة في الاستئثار بالحكم. حينها قد لا يبقى العراق على حاله؛ عراقاً موحّداً قابلاً للحياة، خصوصاً أن بذور العداء بين مكوّناته كبرت، والفجوة صارت هوّةً سحيقة غير قابلة للردم.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى