سوريا في لحظة اختبار دولي.. زيارة ممثلي أعضاء مجلس الأمن بين الرمز والسياسة

بشار الحاج علي

تُعدّ الزيارة الأخيرة لوفد مجلس الأمن الدولي بكامل أعضائه إلى سوريا تطوراً يستحق الوقوف عنده، ليس فقط من حيث رمزيتها الدبلوماسية، بل من حيث ما تعكسه من ديناميات أعمق تتعلق بطبيعة التوازنات الدولية المحيطة بالملف السوري.
فالقدرة على جمع أعضاء المجلس الخمسة عشر في خطوة واحدة تبدو لأول وهلة مؤشراً على توافق ما، إلا أنّ هذا التوافق يبقى محدوداً وضيق الهامش، ويعكس ـ أكثر ما يعكس ـ رغبةً مرحلية في إدارة الخلاف لا تجاوزه. فالقوى الكبرى ما تزال متمسكة بتصورات متباينة حول مستقبل سوريا، ورؤى مختلفة لطبيعة الانتقال السياسي، ومقاربات متعارضة بشأن دور الفاعلين الإقليميين.
لذلك تبدو الزيارة أقرب إلى اتفاق على الشكل، لا على الجوهر، وعلى ضبط الحركة الدبلوماسية، لا على إعادة هندسة مسار الحل.
يظهر بوضوح أنّ القرارات الأممية تمثل الإطار الوحيد الذي يحظى باعتراف جماعي، لكنها تظل إطاراً بلا أدوات تنفيذ فعّالة.
هذا التباين ليس جديداً، بل هو امتداد لحالةٍ ممتدة منذ ما يزيد على عقد. فمنذ انزلاق الصراع السوري إلى مستويات تدخل متعددة، أصبحت البلاد محوراً للصراع الجيوسياسي بين القوى الكبرى. لم تعد الأزمة محصورة بديناميات داخلية، بل تحولت إلى ملف دولي بامتياز، تُدار أدواته تحت سقف مجلس الأمن، وتُقاس توازناته بمدى قدرة كل دولة مؤثرة على تثبيت موقعها داخل معادلة النفوذ. ومن هنا يمكن فهم طبيعة التعاطي الدولي مع القرارات الأممية المتعلقة بسوريا، وكيف حافظت تلك القرارات على الحد الأدنى من التوافق، من دون أن تنجح في إنتاج إرادة سياسية موحدة.
يأتي القرار 2254 في صدارة هذا الحد الأدنى. فمنذ صدوره جرى التعاطي معه باعتباره الإطار العام للحل السياسي، لكن هذا الإطار لم يتحول يوماً إلى خطة عملية قابلة للتنفيذ الشامل. فقد استفادت كل قوة كبرى من مرونة القرار لتقرأه وفق مصالحها وتوازناتها الخاصة. القوى الغربية رأت فيه سبيلاً إلى انتقال سياسي مشروط بضمانات واضحة، في حين نظر إليه الخصوم الدوليون كوثيقة فضفاضة يمكن تفسيرها بما ينسجم مع الحفاظ على استقرار الدولة السورية ومؤسساتها. وبين القراءتين بقي القرار معلّقاً في موقعٍ وسط: غير مُلغى وغير مُطبق، حاضر كمرجعية وغائب كمسار فعلي.
أما القرار 2799 الصادر مؤخراً فيقدّم دليلاً إضافياً على محاولات التوفيق بين ضرورات الشرعية الأممية واعتبارات الواقع الدولي المتغيّر. فصدور القرار جاء في لحظة انتقال في مراكز صنع القرار الدولية، ما فرض نوعاً من إعادة ضبط للتفاعل مع الملف السوري. وقد حاول القرار أن يؤسس لتفاهم جديد يربط بين مطالب الأمم المتحدة في المسار السياسي، وبين رؤية الإدارة الدولية الجديدة التي تسعى إلى التعامل مع الملف السوري من زاوية الاستقرار الإقليمي، واحتواء المخاطر الإنسانية والأمنية، وتعزيز أدوات الانخراط الدبلوماسي.
غير أنّ هذا التحديث في مقاربة مجلس الأمن لا يعني وجود تحول جذري في المواقف، بل يعكس سعياً إلى إدارة الواقع كما هو، وإعادة تنظيم آليات الاشتباك السياسي بما يتيح ضبطاً أفضل لملفات المساعدات، والمساءلة، وإعادة التأهيل التدريجي للمؤسسات الرسمية.
في محصلة الأمر، يظهر بوضوح أنّ القرارات الأممية تمثل الإطار الوحيد الذي يحظى باعتراف جماعي، لكنها تظل إطاراً بلا أدوات تنفيذ فعّالة. وهذا ما يجعل من سوريا نموذجاً كلاسيكياً لحالة دولية معقدة: إجماع على النص، واختلاف على التطبيق. فكل طرف يسعى إلى الاحتفاظ بحق تفسير النص بما يلائم مصالحه، الأمر الذي يساهم في تثبيت حالة اللاحل، لا في تجاوزها. ومن هنا تصبح زيارة الوفد الأممي مجرد محاولة لإظهار أنّ مجلس الأمن قادر على تنفيذ فعل سياسي مشترك، حتى لو بقي هذا الفعل أقرب إلى خطوة رمزية.
في موازاة ذلك، يستمر الواقع السوري في تأكيد أنّ البلاد ما تزال ساحة مفتوحة للتدخلات الخارجية. فالمشهد على الأرض يوضّح بجلاء أنّ السيادة السورية تعرّضت لتآكلٍ متعدد المستويات، نتيجة لوجود جيوش أجنبية، وقوات غير حكومية مدعومة إقليمياً، ومراكز نفوذ تتجاوز قدرات الدولة على الضبط.
هذا التشظي في السيطرة يجعل من أي حديث عن حل سياسي خالص أمراً غير واقعي من دون معالجة ملفات النفوذ العسكري، وضبط خطوط التماس، وتحديد شروط الانسحاب التدريجي للقوات الأجنبية. فالتوازنات السياسية في سوريا لا تُبنى فوق طاولة التفاوض فقط، بل تتأسس أيضاً على الكتل العسكرية القائمة، والخرائط الأمنية المفروضة، والارتباطات الإقليمية التي ما تزال تتحكم في حركة الفاعلين المحليين.
ويزيد هذا التعقيد من أهمية الدور الدولي، لكنه في الوقت نفسه يحدّ من فعاليته. فالتدخلات الخارجية ليست كتلة واحدة، بل شبكة متداخلة من المصالح المتنافسة. لكل قوة إقليمية أو دولية أهدافها الخاصة، ومساحتها من النفوذ، وخطوطها الحمراء. هذا التعدد يخلق فراغاً يصعب ملؤه بقرار واحد أو آلية أممية واحدة، وحتى عندما يتفق مجلس الأمن على خطوة مشتركة، يبقى تأثيرها محكوماً بمدى استعداد القوى المتدخلة لتغيير حساباتها. وفي الوضع السوري الحالي، يصعب القول إن تلك القوى قد وصلت إلى لحظة تنازل متبادل يسمح ببلورة حل متكامل.
يظل المشهد السوري محكوماً بمعادلة مركبة: توافق دولي محدود يمنع الانفجار، وخلافات قد تعيق أو تؤخر الحل.
مع ذلك، يمكن النظر إلى الزيارة الأممية وإلى القرارات الدولية الأخيرة باعتبارها محاولة لتجنب انفلات المشهد السوري نحو مستويات أعلى من الفوضى. فهذه التحركات لا تعني قرب التوصل إلى حل سياسي، لكنها تعني إدراكاً دولياً أن استمرار الوضع على ما هو عليه يهدد بتآكل الاستقرار الإقليمي، ويزيد من احتمالات الانفجار على الحدود، ويعمّق الأزمات الإنسانية. لذا، يتجه العمل الدولي اليوم إلى إعادة هيكلة المتطلبات السياسية وفق الواقع الجديد والإدارة الجديدة، بدلاً من المقاربات السابقة، وإلى تثبيت نقاط توافق ـ ولو كانت محدودة ـ قد تشكّل لاحقاً أرضية لمسار سياسي أوسع.
في النهاية يظل المشهد السوري محكوماً بمعادلة مركبة: توافق دولي محدود يمنع الانفجار، وخلافات قد تعيق أو تؤخر الحل. الزيارة الأممية وقرارات مجلس الأمن لا تلغي هذا الواقع، لكنها تكشف عنه بوضوح أكبر. فبين الحد الأدنى من الإجماع، والحد الأقصى من التناقضات، تبقى سوريا ساحة تتقاطع فيها المصالح الخارجية، وتبقى عملية التسوية مرهونة بتوازن دولي لم ينضج بعد، وبشروط داخلية لا يمكن إنتاجها دون تغيّرات عميقة في بنية الصراع وتوزع القوة على الأرض. وتأتي الزيارة لتؤكد أهمية سوريا وموقعها الجيوسياسي، وضراوة التنافس الدولي فيها، لكنها تصب في خانة دعم سوريا الجديدة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى