
من يراقب المشهد الإسرائيلي اليوم بعيون باردة، وبعقل غير منخدع بالدعاية الغربية، سيكتشف أن إسرائيل ليست دولةً طبيعيةً تتجه إلى المستقبل، بل هي مشروع مؤقّت يعيش في حافَة تاريخه القصير. فالدولة التي أنشأها الغرب في وسط الشرق، وبدعم عربي سرّي كبير، جسماً غريباً، لم تنجح منذ أكثر من سبعة عقود في إنتاج هُويَّة راسخة أو سند داخلي يسمح لها بالاستمرار. هي كيان أُقيم بالإكراه، وبقي بالإكراه، ولا يزال يحتاج كل يوم إلى مزيد من الإكراه كي لا يسقط. ومشكلة الكيانات التي تقوم على القوة وحدها أن القوة تهترئ، وأن اللحظة التي تتراجع فيها تتكشّف حقيقة المشروع بأكمله، وتنكشف هشاشته البنيوية التي لطالما أُخفيت تحت ضجيج الدبابات وطائرات إف- 16.
إسرائيل اليوم ليست دولةً لها جذور في المكان، بل مشروع هجرة جماعية جيء به من أربعة أركان الأرض، جمع قوميات لا علاقة بينها إلا الخوف المشترك من الآخر، وطمعاً في رفاه وأمن، وتحقيق حلم توراتي مريض: روس، بولنديون، إثيوبيون، مغاربة، يمنيون، فرنسيون، أميركيون… شعوب مستوردة لا تحمل ذاكرةً واحدةً ولا لغةً واحدةً ولا ثقافةً واحدةً، تلتقي فقط على عقدة البقاء في منطقة ترفضها جغرافياً وتاريخياً وأخلاقياً. وهذه الفسيفساء المتنافرة لم تستطع أن تتحوّل شعباً، بل بقيت جماعات متجاورة في دولة تلفظها الجغرافيا ويُربكها التاريخ. وقد كان يمكن لهذه الهشاشة أن تبقى مخفيةً لو ظلّ الجيش الإسرائيلي قادراً على إدامة أسطورة التفوّق. لكن حرب غزّة أخيراً فجّرت ما كان الإسرائيليون أنفسهم يخافون الاعتراف به: جيشهم عاجز، فقد القدرة على الحسم، غير قادر على حماية مستوطنيه، ولا على استعادة أسراه، ولا على فرض سيادته على منطقة محاصرة منذ 18 عاماً. فمن يفشل في غزّة لا يمكنه أن ينتصر في حرب أكبر، ومن تُهزم صورته أمام فصائل تقاتل تحت الأنقاض لا يمكنه أن يحافظ على هيبته أمام أمّة كاملة تمتدّ من المحيط إلى الخليج.
إسرائيل اليوم ليست منقسمةً سياسياً، بل وجودياً
والأخطر من ذلك كلّه أن هذا الكيان لا يعيش بقواه الذاتية، بل يعتمد على التنفّس الاصطناعي الأميركي والأوروبي: مليارات الدولارات، تسليح لا ينقطع، تغطية دبلوماسية في مجلس الأمن، دعم استخباري، حماية سياسية… دولة تحتاج إلى هذا الكمّ الهائل من الدعم لتبقى واقفةً ليست دولةً طبيعيةً، بل هي مشروع هشّ يشبه ممالك الصليبيين التي ازدهرت ما دام الأسطول الأوروبي يحميها، ثم انهارت في اللحظة التي جفّ عنها الدعم الخارجي.
ومع هذا الدعم كلّه، يبقى الخطر الأكبر داخلياً: انقسام الهُويَّة. إسرائيل اليوم ليست منقسمةً سياسياً، بل وجودياً. صراع بين المتدينين والعلمانيين، بين الأشكناز والشرقيين، بين الصهيونية الدينية والصهيونية الليبرالية، بين المركز والمستوطنين. كل جهة تريد إسرائيلَ مختلفةً، وكل تيار يحلم بدولة لا تشبه الأخرى. دولة بهذا التناقض الداخلي لا يمكنها أن تعيش طويلاً، لأنها ببساطة غير متفقة على تعريف نفسها، ولا على طبيعة مشروعها، ولا حتى على قانون يحكم العلاقة بين مواطنيها. ثم يأتي العامل الديمغرافي، وهو السيف الذي لا يبرح رقبة المشروع الصهيوني. فالفلسطينيون اليوم بين النهر والبحر باتوا رقماً متقدّماً ديمغرافياً، ومع مُعدَّل نمو يفوق بثلاثة أضعاف المُعدَّل الإسرائيلي، يصبح السؤال الوجودي لإسرائيل سؤال وقت، لا سؤال احتمال. دولة لا تستطيع أن تضمن الأغلبية داخل حدودها هي دولة في طريق الزوال مهما امتلكت من أسلحة ونفوذ خارجي.
لكن ما يجعل مستقبل إسرائيل أكثر ظلاماً هو أنها لا تقدّم لأيٍّ من سكّانها سردية مستقبل. الدول الطبيعية تعطي الفرد وعداً بالتقدّم والازدهار والمعنى. إسرائيل لا تملك إلا وعد الخوف: الخوف من العرب، من الفلسطينيين، من الإيرانيين، من حزب الله، بل الخوف حتى من اليهود الذين يرون في قيام الدولة خطيئة تستحق غضب الرب، فضلاً عن الخوف من المستقبل ذاته. الخوف يوحّد الناس حيناً، لكنّه يدفعهم إلى الهرب حين يصبح نمط حياة لا ينتهي، ولهذا تتزايد الهجرة العكسية، وتتفكّك الثقة بالقيادة، وتنهار الثقة بالجيش، ويصبح السؤال داخل المجتمع الإسرائيلي أكثر رعباً من أيّ سؤال آخر: لماذا نبقى؟
إسرائيل ليست ذاهبة إلى زوال مفاجئ غداً، لكنّها تمشي بثبات إلى نهايتها
في مقابل هذا كلّه، تنمو الرواية الفلسطينية والوعي العربي الشعبي والغربي، قوىً صاعدةً، قويةً، ثابتةً، تقاتل بعقيدة، وتملك ما لا تملكه إسرائيل: الحقّ. والمفارقة أن المشروع الذي بُني أصلاً على فكرة القوة المطلقة يواجه اليوم قوةً معنويةً ومادّيةً تتعاظم رغم الحصار والتدمير. غزّة التي أرادوا تحويلها درساً للردع أصبحت درساً في سقوط الردع. والضفة الغربية التي أرادوا إخضاعها أصبحت بركاناً. والقدس التي حاولوا تهويدها أصبحت إحدى ساحات الصراع الأشد. وإسرائيل التي أرادت أن ترهب المنطقة كلّها أصبحت هي الخائفة الوحيدة.
إن كل العوامل التي صنعت الكيان (الدعم الخارجي، التفوّق العسكري، الانقسام العربي، غياب المقاومة المنظّمة وخذلانها والتآمر عليها) تتآكل اليوم بسرعة غير مسبوقة، بينما العوامل التي تهدّده تتعاظم. ولهذا يبدو المشهد التاريخي واضحاً: نحن أمام دولة بلا مستقبل طويل، دولة مؤقّتة، كيان استيطاني وصل إلى ذروة قوته وبدأ رحلة الهبوط، تماماً كما حدث لكل الكيانات المماثلة في التاريخ. لم تنجُ أيُّ مستوطنة قامت بالإكراه، ولم تستمرَّ أيُّ دولة فقدت قدرتها على الحسم، ولم يُعمَّر أيُّ مشروع بلا جذور في المكان، مع وجود شعب مقاوم عنيد يواجه الاحتلال بصبر ونفس طويل، ولا يوجد في قاموسه كلمة استسلام.
إسرائيل ليست ذاهبة إلى زوال مفاجئ غداً، لكنّها تمشي بثبات إلى نهايتها. مشروع يشيخ قبل أوانه، يفقد مبرّرات وجوده، ويتآكل من الداخل والخارج. وما نراه اليوم ليس مجرّد أزمة سياسية أو عسكرية، بل اهتزاز في الأساس الذي بُني عليه هذا الكيان: أساس مؤقّت، هشّ، ومصنوع ضدّ قوانين التاريخ والجغرافيا والإنسان. ولهذا، لم يعد السؤال الحقيقي: هل ستستمرّ إسرائيل؟ بل: كم بقي في عمر هذا المشروع قبل أن يسقط كأيّ كيان استيطاني وُلد عكس منطق المكان وزمن الشعوب؟
المصدر: العربي الجديد






