
نُقلت ثمانية حمير من قطاع غزّة بالطائرات إلى ألمانيا، حيث استُقبلت في مزارع مخصّصة في ولايات مختلفة. في المقابل، وبحسب معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام، استحوذت ألمانيا على 30% من الأسلحة الواردة إلى إسرائيل بين عامي 2019 و2023، وارتفعت صادرات الأسلحة الألمانية إلى إسرائيل بشكل حادّ في الأشهر الأخيرة من 2023، في أعقاب “طوفان الأقصى”. وفيما تقدّم الحكومة الألمانية دعماً غير محدود للكيان الصهيوني، وتستمرّ في إنكار حدوث إبادة جماعية بحقّ الفلسطينيين، تكتفي باستقبال بضعة حمير من غزّة. وهذا يقودنا إلى سؤال أوسع حول الازدواجية الرسمية الغربية في التعامل مع الملفّ الحقوقي.
ظلّ الموقف من القضية الفلسطينية حاسماً في فهم مدى التزام أيّ طرف بالمبادئ الحقوقية؛ فلا توجد قضية أكثر عدالةً ووضوحاً منها. وفي الوقت ذاته، لا توجد قضية تعرّضت للتشويه وخطاب الكراهية أكثر من هذه القضية العادلة. ولهذا، تحوّل الموقف من القضية إلى الميزان الذي تعتمده الشعوب العربية في حكمها على الدول والحكومات، وحتى المبادئ والنظريات، من دون أن ينفي ذلك استغلال الأنظمة السلطوية العربية لهذه القضية العادلة لتبرير انتهاكاتها للحقوق، والحريات، وترويج سردية أن شعوب المنطقة لا تليق بها منظومة حقوق الإنسان الكونية، لتعارضها مع البنى الثقافية الموروثة المتقاطعة مع الدين، بينما الحقيقة لا تتعلّق بهذا العامل (وإنْ لا ننفي أهميته) وإنما هي أفكار ووقائع رسّخها الاستبداد الجاثم على العقول والأجساد والأوطان منذ قرون.
لا توجد قضية تعرّضت للتشويه وخطاب الكراهية أكثر من قضية فلسطين
ينبغي تسليط الضوء على الفجوات الهائلة بين خطاب حقوق الإنسان والواقع. لقد أصبحت حقوق الإنسان معياراً راسخاً في الغرب، ولكن أين هي حقوق السكّان الأصليين الذين تعرّضوا للمجازر؟ وأين حقوق الشعوب المُستعمرَة؟ وحقوق الفقراء؟ عندما لم تعد قواعد القانون الدولي تناسبه، بخاصة بعد نهاية الحرب الباردة، انتهى الأمر بالغرب إلى وضع “قواعده” الخاصّة سرّاً لإملاء “قيمه”، وتفسير القانون الدولي بما يخدم أغراضه، وتأمين سلطة “أخلاقية” لتبرير هيمنته. منذ ذلك الحين، اعتاد الغرب إعادة كتابة التاريخ وإدانة انتهاكات حقوق الإنسان في الدول الفقيرة أو “الفاشلة” أو “المارقة”، ممّا يصرف الانتباه عن تلك التي ترتكبها الدول الغربية. وفوق ذلك كلّه، باسم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، يشنّ الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، حروباً جديدةً باستمرار (من دون أن يبقى له عدو)، وفي الوقت نفسه يروّج السلام. في العقيدة الغربية، لا تُعالَج أيُّ مشكلة أو صراع بشكل كامل، لأن ذلك سيكشف أن المعتدي ليس كما نظن.
لم يبدأ الاحتلال الصهيوني لفلسطين عام 2023، إذ يُعدّ إبادةً جماعيةً واضحةً على مرأى ومسمع “المجتمع الدولي” بأكمله منذ عقود. ألا تُسارع الدول الغربية إلى التستّر بأيديولوجيا حقوق الإنسان ومنظومة القيم الكونية لتعزيز مصالحها الوطنية والدفاع عنها بشكل أفضل؟ ألا تُساءَل، رغم مسؤوليتها عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؟
غزو القوات الأميركية العراق، وممارسة التعذيب في سجن أبو غريب، ومنطقة خليج غوانتانامو الخارجة عن القانون، واستخدام الطائرات من دون طيار التي تقتل عشوائياً مستهدفة المقاتلين والمدنيين على حدّ سواء… كلّها حقائق تُجسّد “ازدواجية الغرب”. إن إفلات الغرب من العقاب، إلى جانب خطابه الأخلاقوي الزائف وازدواجيته في التعامل مع القضايا الإنسانية والكيل بمكيالَيْن، يدفع الثقافات الأخرى إلى التشكيك في كونية القيم الحقوقية، وإلى الرغبة في التحرّر من عولمة تُعتبر ظالمةً وإمبرياليةً للغاية.
حالة من العداء المبالغ فيه للقيم الغربية في الشارع العربي، خصوصا بعد “طوفان الأقصى”
من منظور جيوسياسي، تُثير قضايا حقوق الإنسان كثيراً من التساؤلات حول كونيتها ومدى صلاحيتها، فيصبح الخيط الرفيع الفاصل بين الأيديولوجيا والقيم على حافة الاضمحلال. ففي العديد من الدول الهشّة أو الناشئة، غالباً ما تُعتبر هذه الحقوق تدخّلاً، بل نموذجاً ثقافياً غربياً يمكن تجاهله. ويجد هذا الموقف تأصيله النظري في تطوّر الفكر المناهض للاستعمار ودراسات ما بعد الكولونيالية، حيث يُساوى “الغرب” غالباً بـ”الإمبريالية”. ومن دون الوقوع بالضرورة في النسبية المنهجية التي من شأنها أن تُشكّك في حقوق الإنسان نفسها، يمكن أن تتمثّل هذه المواقف في انتقاد نظام قيم فُرض تاريخياً من الخارج وبالقوة.
هذه الأسئلة، التي تُناقش بشكل متزايد في الأوساط الأكاديمية، قد تغلغلت بقوة في المجال السياسي. وقد عزّز التطوّر السريع للعلاقات الدولية هذا التغيير الجذري. غير أن ما ترتب من “طوفان الأقصى” هو حالة من العداء المبالغ فيه للقيم الغربية في الشارع العربي، فحُمِّلت مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وزر التواطؤ الغربي مع الكيان الصهيوني. في الوقت نفسه، تآكلت مركزية الغرب بلا شك. شنّ المُستبدّون، الذين يزرعون أسطورة الرجل القوي وعبادة الشخصية، ويتلاعبون بجميع القواعد القانونية للحفاظ على قبضتهم على السلطة، هجماتٍ متنوعةً على القضايا الحقوقية. مع ذلك، فشلوا في تقديم أيّ دعم حقيقي للقضية الفلسطينية، واكتفوا بتوظيف الشعارات في نمط من الخطاب الشعبوي، غايته ليست مواجهة الإمبريالية الغربية أو فضح أيديولوجيا العولمة، بقدر ما تتعلّق بترسيخ هيمنتهم على شعوبهم.
المصدر: العربي الجديد






