الخدمة الإلزامية في الجيش / خدمة العلم

د. مخلص الصيادي

مفهوم الخدمة الإلزامية في الجيش:
الخدمة الإلزامية في الجيش تعني وجوب مشاركة المواطنين في الحياة العسكرية تدريبا وممارسة وخدمة، وفق الأنظمة العسكري المعتمدة لفترة معينة، ثم يعودوا إلى حياتهم المدنية، على أن يتم استدعاؤهم وقت الحاجة، وكل ما يخص هذا النظام يحدده ويضبطه القانون. وتقرر السلطات المختصة مدة هذه الخدمة، وظروفها، وطرق جعلها مهيأة للاستجابة لكل المستجدات التقنية والمتغيرات البنيوية. مع المحافظة على استقرار الحياة الاجتماعية والإنتاجية لهذه القوة الحيوية والفاعلة في المجتمع.
أهمية الخدمة الإلزامية:
تعتبر الخدمة الإلزامية مرحلة من مراحل التربية الجماعية للشباب، تستهدف تعريفهم على الحياة والمهام والمهارات العسكرية، بما يولد عندهم روح العمل الجماعي، وروح الالتزام بالدفاع عن الوطن والأمة تجاه ما يهددها من أخطار، وإنضاج شخصية الشاب حتى يكون أكثر أهلية (مسؤولية، ومبادرة، وجماعية) في ممارسة حياته المدنية العامة.
كما تنمي فيه الإحساس بالمسؤولية تجاه أمته ووطنه، وتجاه أمن مجتمعه وتقدم هذا المجتمع وسلامته. أي أن الخدمة الإلزامية تعزز الاندماج الوطني بين مختلف مكونات الأمة، تنمي الشعور بالمواطنة وبالمسؤولية، وتساعد الخدمة الإلزامية بتنوع المشاركين فيها أهمَ مؤسسة وطنية على الابتعاد عن تسلل التركيبة والبنية الطائفية أو العرقية إليها، فإذا انزلقت إلى هذه المهاوي ـ كما جرى زمن النظام البائد ـ فإنه يصبح انحرافا مكشوفا، يستدعي من قوى المجتمع كلها معالجة سريعة وحاسمة.
كذلك يوفر تطبيق هذا النظام سرعة الاستجابة للمتغيرات الأمنية، والأخطار التي يمكن أن يمر بها الوطن.
وتزداد الحاجة إلى تطبيق هذا القانون كلما كان الوطن والأمة تحيط بهما المخاطر، أو يتعرضان للضغوط، لذلك نرى أن دولا معينة كانت قد ألغت هذا النظام، عادت إليه مجددا حينما أحاطت بها المخاطر الأمنية، وتعتبر ليتوانيا والسويد ولاتفيا والدول الاسكندنافية مثالا على ذلك، حيث عادت إلى هذا النظام تدريجيا عقب ضم روسيا لجزيرة القرم.
فرض الخدمة الإلزامية قديم عند معظم الأمم والدول، وفي تاريخنا العربي الإسلامي يُذكر أن أول من أخذ بقاعدة التجنيد الاجباري في العسكرية هو الخليفة عبد الملك بن مروان، وطبقها الحجاج بن يوسف الثقفي.
في العصر الحديث فرضها محمد علي باشا في مصر على الفلاحين. في الدولة العثمانية فرضها مدحت باشا (1869 ـ 1872)، وقبل عقد على قرارا مدحت باشا حاول الوالي على العراق عمر باشا ( 1857ـ 1859) فرضها، لكن السكان لم يستجيبوا.
الدول التي تأخذ بنظام الخدمة الإلزامية

خلال فترة الحرب الباردة أو بعدها انتهى العمل بالخدمة الإلزامية في الجيش عند معظم الدول الأوربية، لكن بقيت الدول الاسكندنافية وفنلندا وسويسرا والنمسا وقبرص واليونان وتركيا تأخذ بهذا النظام، وعقب ضم روسيا للقرم ومن ثم الحرب الأوكرانية الروسية انضمت على التوالي كل من ليتوانيا والسويد ولاتفيا إلى العمل بهذا النظام.
كذلك تعمل بهذا النظام كل من مصر والمغرب والجزائر وتونس والإمارات وارتيريا وتشاد، وماليزيا، والكوريتان “وإسرائيل”، والبرازيل وكوبا، وإيران، وسنغافورة
في الولايات المتحدة هناك مفهوم الخدمة الانتقائية وهو مفهوم مشتق من مفهوم الخدمة الإلزامية، بحيث يسجل الشباب للخدمة ثم تنتقي السلطات المختصة من تريد، ويعتبر عدم التسجيل للخدمة الإلزامية “جريمة جنائية”. من جانبها أنهت المملكة المتحدة تطبيق قانون التجنيد الاجباري في العام 1960، فيما أوقفت إيطاليا العمل به عام 2004

الخدمة الإلزامية في سوريا

في العام 1946 وعقب الاستقلال تم تطبيق نظام الخدمة العسكرية الإلزامية / خدمة العلم، وكانت الخدمة العسكرية مصدر شرف واعتزاز، لأنها تشعر المواطن السوري بالمشاركة في أهم وأخطر وأكثر مؤسسة منتظمة في البلاد، بحيث كانت العلاقات التي تنسج بين المنتظمين في هذه الخدمة تدوم طويلا وتولد صداقات وترابط بعيد المدى.
ولم يختلف الأمر إلا بعد أن تم تحويل الجيش إلى أداة سيطرة وتحكم في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتسخيره لفرض مصالح لفئات معينة، وهنا بدأت تظهر الطبيعة التسلطية القهرية لحامل السلاح الذي لم يعد يوجهه لخير الوطن وأمنه، وإنما لمصالح المسيطرين والمتحكمين فيه، وفي السلطة السياسية، ثم تحول الأمر تدريجيا ليصبح الجيش مرتعا لقوى طائفية، ومصدرا للعنف والاستبداد والقهر تجاه المعارضين، ثم تحول في مرحلة لاحقا ليكون أداة للقتل ضد المواطنين المدنيين، وقد ترافق هذا كله، مع فشل ذريع في قيامه بمهمته الأساسية في حماية الوطن من المخاطر الخارجية، وفي تأمين أمن الوطن وسلامه.
مع هذا التغيير في دور وأداء الجيش، تغيرت نظرة المواطن لمكانه في هذه المؤسسة، فما عاد الانتماء إليها مصدر فخر له، وما عادت شرفا يسعى إليه المواطن، وما عادت “حياة جماعية فاعلة” تنمي فيه روح المسؤولية والمواطنة والاندماج الوطني، وإنما بات مسرحا لممارسة الامتيازات والفساد والقيم الساقطة، وارتكاب الجرائم بحق الوطن والمواطن، وأصبح التخلص من “الخدمة الإلزامية / خدمة العلم” هدفا يسعى الجميع للوصول إليه سواء بدفع البدل، أو بالهجرة للخارج، أو بأي شكل من الأشكال. وقد استغل قادة النظام البائد، وأركان حكمه، هذا الوضع ليجعلوا منه مدخلا لثرائهم وابتزازهم، وباتت مواقع محددة للمسؤولية في هرم “الخدمة الإلزامية”، تباع بين المسؤولين أنفسهم باعتبارها بوابات للتكسب والثراء.
ولهذا الواقع المخزي الذي آل إليه مفهوم خدمة العلم، فإن من أوائل القرارات التي اتخذتها السلطة الجديدة عقب إسقاطها النظام البائد قرارها بإلغاء “خدمة العلم”، ولاقى هذا القرار استحسانا عاما، بل واعتبره البعض من أهم الإنجازات التي تعدُ بعد سقوط النظام الأسدي.
كل الوضع السوري الراهن يستدعي التمسك بمفهوم خدمة العلم، وتعزيز هذا المفهوم، بعد تخليصه من الشوائب الأسدية، التي لم يقتصر شرها وضررها على ما حدث لمفهوم ” خدمة العلم” وإنما أصابت حياتنا كلها.
** سوريا الآن باتت أكثر انكشافا أمنيا، من جانب العدو الصهيوني، ومن جانب القوى الانفصالية الداخلية، ومن جانب القوى المصنفة بكونها ” إرهابية”، وهي في واقع احتلالات عديدة.
** وجزء من الجمهورية العربية السورية محتل، بعضه محتل منذ العام 1967، وبعضه محتل بعد سقوط النظام الأسدي، ولا بد من توفير القوة للازمة لاستعادة هذه الأراضي ثم لحمايتها.
** وسوريا في حاجة ماسة لإعادة اللحمة الوطنية بين أبنائها، من خلال حياة اجتماعية منضبطة وواعية يشارك فيها كل السوريين على تنوعهم الديني والمذهبي والعرقي، ولعل الفرصة التي يوفرها مفهوم “خدمة العلم” لا توفرها أي مؤسسة أو جهة أخرى.
** والمواطن السوري بحاجة إلى استعادة الثقة بقواته المسلحة، بجيشه، بأجهزته الأمنية، بشرطته، بعد مرحلة ممتدة تم خلالها استخدام هذا الجيش في قتله وتدمير مظاهر الحياة والحضارة في بلده، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال معايشة حقيقية يشعر بها كل شباب الوطن.
وإذا كانت الدول الأوربية التي ألغت الخدمة الإلزامية قد عادت إليها مجددا حينما تعرضت لعدوان يهدد أرضها الوطنية، ومصالحها الحيوية، أو حينما باتت توقع ذلك، فنحن أحرى بالحفاظ على مفهوم ” الخدمة الإلزامية” بعد تطهيره مما علق به من أوحال النظام البائد.
لذلك كان حقا علينا أن نعارض صدور قرار إلغاء “خدمة العلم”، ونعتبره قرارا خاطئا، وأيضا قرارا خطرا لأنه يفكك العلاقة العضوية بين الجيش والشعب، بين المواطن وجيشه، في حين نحن بأمس الحاجة لإعادة بناء العلاقة الصحية بين الطرفين.
إنه قرار قد يرضي أهلنا وأبناءنا الذين تضرروا من النموذج الأسدي في تطبيق مفهوم “خدمة العلم”، لكنه في الوقت نفسه يؤذي ويضر الوطن كله، راهنه ومستقبله. إنه قرار شعبوي، ولكنه ليس قرارا رصينا مسؤولا.
إستانبول 10 / 12 / 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى