معركة سورية الوحيدة

صبا ياسر مدور

تحتاج سوريا إلى كل شيء تقريباً، من أجل إعادة بناء نفسها، وتثبيت وحدتها الترابية والمجتمعية، لكن الأهم في كل ذلك: الحكم الرشيد لضمان الاستقرار الداخلي، وتجنب التورط في الصراعات الإقليمية، بما في ذلك، ما يمكن أن يجري بالقرب من الحدود.

نعرف أن لا أحد سيضمن عدم تمدد أي صراع يجري في دول مجاورة إلى داخل سوريا. فذلك أمر متوقع بحكم عناصر عديدة، لكن من المهم أن يكون الاضطرار إلى منع تمدد أي صراع خارجي إلى داخل الحدود، مصحوباً بحرص على منع التورط في فخ تجاوز هذا المنعطف الإجباري، نحو الانخراط في صراعات الآخرين، حتى مع أطراف متهمة بارتكاب جرائم ضد الشعب السوري.

هناك اليوم من بدأ يشيع فكرة تدخل القوات السورية في ضرب حزب الله اللبناني، والعمل على تجريده من سلاحه، وهناك من يشيع أيضاً أن سوريا قد يكون لها في وقت ما دور في العراق أيضاً لإعادة “برمجة” نظامه السياسي، وقلب معادلته.

ندرك أن الدولة غير معنية بما يقوله الآخرون من خيالات رغائبية أو شائعات هدفها التحشيد ضد سوريا، وأن المسؤولين في دمشق تغاضوا دائماً عن اتهامات أطلقت ضدهم من شخصيات سياسية في كل من العراق ولبنان، ومن بين ذلك اتهامات بتشكيل خطر على الوضع الأمني في البلدين. هذا التغاضي كان مجدياً في دفع تلك التصريحات والتحريض نحو النسيان، غير أن الخشية لم تعد في الكلام والاتهامات، بل في الرغبة بافتعال صراع، ودفع سوريا نحو خيارات ليست على قائمة المهام. وذلك أمر ممكن في خضم أي تجدد للحرب، سواء على حزب الله في لبنان أو على إيران أو على الميليشيات في العراق.

توريط سوريا هو أحد الخيارات المناسبة لإنهاك الدولة أكثر مما هي عليه، واستنزافها، مع اختلاق جيوب تمرد داخلية، تنفذ مهمة “الثورة المضادة” من أجل الحصول على أي مكسب جغرافي، أو على الأقل دفع سوريا نحو مزيد من الفوضى. والفوضى في سوريا هنا هي –للمفارقة- مطلب للخصمين في المنطقة، فهي مطلب لإسرائيل كما أنها مطلب لإيران. الأولى لأنها تريد لسوريا -كما لدول أخرى- أن تغرق في فوضى حروبها الداخلية، فتظل ضعيفة ومقسمة، والثانية يهمها أن يفشل النظام في إدارة الأمور، وأن تكون في سوريا جيوب قادرة على استيعاب واحتضان مؤيدين لإيران يعيدون إنتاج رؤيتها في الدفاع المتقدم، وبناء مراكز قوة خارج الحدود، كما تفعل منذ أربعين عاماً. وهو بالطبع مطلب يزداد أهمية مع الوضع الراهن لحزب الله، وانقطاع التواصل البري الذي كان قائماً لعقدين بين طهران وبيروت.

ويبدو أن إثارة المشكلات الداخلية في سوريا، بل وحتى الاعتداءات العسكرية والتقدم داخل بعد خط هدنة 1974، هو أسلوب إسرائيل المفضل للضغط على الحكومة السورية، وحملها على القبول بمطالب توريط سوريا في الخطط الإسرائيلية الخاصة بلبنان. تفترض هذه الخطط أن دمشق استفادت من إضعاف حزب الله، وأن خزين الذكريات المؤلمة لدى السوريين مما فعله هذا الحزب بهم من جرائم خلال 12 عاماً، سيكون كافياً لاختلاق ذرائع مقبولة وربما مغرية للبعض للتدخل في شرقي لبنان، حيث يحتفظ الحزب بأسلحته الاستراتيجية التي عجزت إسرائيل عن تدميرها، والقيام بالمهمة في حال استمر رفض الحزب نزع سلاحه.

هو بالطبع مخطط نظري، وليس هناك من أعلن عن ذلك حتى بين الإسرائيليين، لكن نزع السلاح الاستراتيجي للحزب سيبقى بعيد الاحتمال من دون تدخل بري قوي في البقاع، لن تحتمله إسرائيل في خضم حربها على غزة، فضلاً عن أن الجيش اللبناني قد لا يكون مستعداً لخوض حرب أهلية ضد الحزب من أجل هذا الغرض. وهو الذي بقي بعيدا عن التورط في الحرب الأهلية طيلة 15 عاماً، ولذلك فليس من حل لدى تل أبيب أفضل من قوة يحمل أفرادها بالأصل مشاعر غضب كبير ضد حزب الله، ولديهم الخبرة والجاهزية للقيام بالمهمة، وهم موجودون على بعد مسافة قصيرة من الهدف.

هذا الافتراض النظري لا ينبغي أبداً أن يكون واقعاً، مهما كان الثمن. فذلك بالتحديد ما يمكن أن ينقل الثورة السورية المنتصرة، إلى سياق آخر تماماً، لا يهدد موروثها فقط، بل ومستقبلها أيضاً، فضلاً عن سمعة مقاتليها الذين قد يتورط بعضهم في جرائم طالما استنكرناها على حزب الله، ولا ينبغي أبداً أن يقوم جيش قوامه شباب ثاروا ضد الظلم وغياب القانون بأفعال حتى ضد قاتلي أطفالنا.

معارك سوريا، ينبغي أن تكون خالصة لها، ومن أجل شعبها ومستقبلها، ومعركتها الكبرى اليوم، هي في بناء الوحدة المجتمعية والترابية وبناء مؤسسات الحكم الرشيد القائم، وفي التنمية ورفاهية الشعب، وفي العدالة الانتقالية. معركة سوريا اليوم في خروجها من عنق الزجاجة في ظرف عصيب مفروض عليها ويحيط بها من كل جانب.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى