
منذ عقود، شكّلت الطبقة الوسطى في سوريا عماد التوازن الاجتماعي والثقافي، وكانت حاملة للعلم، والوظيفة العامة، والمهن الحرة، ولكن نتائج الحرب قوّضت أيضاً هذه الطبقة التي كانت تسند المجتمع في لحظات هشاشته، اليوم، ومع الحديث عن زيادات في الرواتب وبعض التحسنات الشكلية، يُطرح سؤال مصيري: هل هناك فرصة حقيقية لعودة الطبقة الوسطى؟ أم أن الفجوة اتسعت بشكل لا يمكن رأبه؟
كانت الطبقة الوسطى تشكّل ما يقارب 60% من المجتمع السوري، بحسب تقديرات غير رسمية، مما منحها وزنًا نوعيًا في تحديد المزاج العام، وشملت موظفي الدولة، المعلمين، الأطباء، المحامين، وأصحاب الورش والمشاريع الصغيرة، وعلى الرغم من التحديات الاقتصادية، كانت هذه الطبقة قادرة على تأمين أساسيات الحياة الكريمة من سكن وتعليم وصحة ودرجة معقولة من الأمان الوظيفي.
إلى أن بدأت هذه الطبقة تعاني من آثار سياسات التحرير الاقتصادي غير المنضبطة، التي وسّعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ومع ذلك، لم تصل الأمور إلى الانهيار، واستطاعت الصمود لكن سنوات الحرب شكلت صدعاً جديداً.
من الجليّ أن هذه الطبقة لا تمتلك ثروات كبيرة، لكنها قد تملك المعرفة والمهارات، فإذا وُجدت الإرادة، يمكن لهذه البذور الصغيرة أن تتحول إلى نواة لإعادة التوازن، لكن من دون إصلاح سياسي واقتصادي عميق، ستظل هذه المحاولات مجرد مسكنات.
شكّلت تلك الطبقة حجر الزاوية في المجتمع، فكانت ميزانًا يضبط العلاقة بين الطموح الفردي والاستقرار الجماعي حتى أنها صنعت الهوية الاقتصادية والثقافية للبلاد، لكنها اليوم، بعد أكثر من عقد من الحرب، لم تعد كما كانت فقد انكمشت وتآكلت، وتحوّلت إلى شظايا متناثرة بين الفقر والنزوح والغربة.
أثّر تضخّم الأسعار بشكل غير مسبوق، وانهيار الليرة السورية إلى مستويات تاريخية، على دخل الموظف الحكومي فصار لا يكفي سوى لأيام معدودة، أما أصحاب المهن الصغيرة، فوجدوا أنفسهم خارج السوق بعد أن التهمت تكاليف المعيشة كل ما يملكونه، وتحول مصطلح “الطبقة الوسطى” إلى ذكرى بعيدة، وبدأ السوريون يتحدثون عن فئتين أساسيتين: قلة تملك كل شيء، وكثرة تبحث عن البقاء.
مع اتساع رقعة الحرب، ظهرت ظاهرة النزوح الداخلي التي أفرزت شريحة اجتماعية جديدة، إذ اضطر ملايين السوريين إلى ترك بيوتهم والانتقال إلى مناطق أخرى داخل البلاد، هؤلاء لم يخسروا ممتلكاتهم فقط، بل فقدوا شبكاتهم الاجتماعية وفرص عملهم، كان كثير منهم ينتمون سابقًا إلى الطبقة الوسطى، لكن النزوح جعلهم في مواجهة الفقر والعوز،
لم يكن هذا التحول فرديًا، بل صدّع البنية الاجتماعية برمتها، إذ انتقل الآلاف من حياة كريمة إلى واقع هشّ لا يوفر لهم سوى الحد الأدنى للبقاء، وبذلك، تلاشت واحدة من أهم ركائز الاستقرار الاجتماعي.
في الجهة المقابلة، وُلدت طبقة جديدة أطلق عليها السوريون اسم “أثرياء الحرب”، بنوا ثرواتهم على أنقاض المجتمع، عبر التهريب، تجارة السلاح، أو حتى عبر استغلال الأزمات الإنسانية، إذ لم تكن هذه الثروة ناتجة عن إنتاج أو استثمار حقيقي، بل على اقتصاد الحرب القائم على الابتزاز والفساد.
أصبحت تلك الفئة (إضافة شبكة من الفاسدين الذين استغلوا المناصب والنفوذ لجمع الثروة في زمن الانهيار)، بعد فترة تتحكم بمفاصل التجارة والاستثمار وحتى بعض المؤسسات الرسمية، وجعل صعودها السريع الفجوة بين الفقراء والأغنياء أكثر اتساعًا، وحوّل الحلم بالعدالة الاجتماعية إلى وهم.
لقد جعل هذا التركز المفرط للثروة أي مبادرة لإحياء الطبقة الوسطى شبه مستحيلة، لأن توزيع الموارد أصبح منحازًا بشكل كامل، وأثبت أنه ما لم يتم كسر هذه الحلقة المفرغة من الفساد والاحتكار، فستبقى الفجوة بين الطبقات في اتساع، وسيبقى الحلم بمجتمع متوازن مجرد أمنية بعيدة.
لم يكن غياب الطبقة الوسطى مجرد تحوّل اقتصادي، بل هزّ القيم الاجتماعية والثقافية لأنها كانت تمثّل مساحة اللقاء بين الغني والفقير، وتلعب دور الوسيط الذي يمنع الانقسام الحاد، ومع زوالها، أصبحت الفروق الطبقية واضحة وحادة.
فانتشرت على إثر ذلك التمايز الحاد ثقافة البقاء بأي ثمن، وحلّت محل القيم التي ارتبطت سابقًا بالتعليم والتطور غريزة البقاء التي تمثلت بتأمين فرصة نجاة بأي طريقة، في حين أصبحت الأحلام التقليدية كامتلاك منزل أو سيارة أقرب إلى المستحيل.
لكن تلك لم تكن النهاية فعلى الرغم من هذه التحديات، لم تغب محاولات الإحياء لتلك الفئة، إذ ظهرت مشاريع صغيرة ومتناهية الصغر، مثل الإنتاج الزراعي المنزلي، أو التجارة الإلكترونية التي وفرت متنفسًا لشريحة واسعة من السوريين، كذلك لعب التعليم عن بعد دورًا مهمًا في تمكين الشباب من اكتساب مهارات جديدة تؤهلهم للعمل في الأسواق العالمية، خاصة في مجال التكنولوجيا والبرمجة، غير أن هذه الجهود، لا تزال محدودة أمام التحديات البنيوية التي تواجه الاقتصاد السوري.
السؤال الحقيقي اليوم مع الإعلان عن زيادة الاستثمارات في سوريا ومع زيادة الحد الأدنى للدخل، هل يمكن للطبقة الوسطى أن تعود بمفهومها التقليدي؟ الواقع يقول إن الأمر صعب في ظل الانقسام السياسي والاقتصاد المنهِك، لكن يمكن أن نرى ولادة طبقة وسطى جديدة أكثر مرونة، تعتمد على التكنولوجيا، والتخصصات الحديثة الأكثر مرونة.
من الجليّ أن هذه الطبقة لا تمتلك ثروات كبيرة، لكنها قد تملك المعرفة والمهارات، فإذا وُجدت الإرادة، يمكن لهذه البذور الصغيرة أن تتحول إلى نواة لإعادة التوازن، لكن من دون إصلاح سياسي واقتصادي عميق، ستظل هذه المحاولات مجرد مسكنات.
لا يمكن للطبقة الوسطى أن تزدهر من دون مؤسسات عادلة، رواتب كريمة، ونظام ضريبي عادل يردع الفساد ويعزز الشفافية، بالترافق مع تحقيق العدالة في إعادة الإعمار
لا يمكن القول إن الطبقة الوسطى اندثرت نهائيًا، لكنها بالتأكيد لم تعد كما كانت، ما يجعلنا أمام مفترق طرق: إما إعادة تعريف هذه الطبقة لتناسب الواقع الجديد، أو الاستسلام لمجتمع منقسم بين قلة مترفة وكثرة مسحوقة، والسؤال الأهم يبقى: هل لدينا الشجاعة لصياغة عقد اجتماعي جديد يكفل العدالة الاجتماعية؟
لقد كانت الطبقة الوسطى في سوريا بمنزلة العمود الفقري للمجتمع، توازن بين الفقر والثراء، وتحمل على عاتقها أعباء التعليم، والخدمات، والإنتاج الثقافي فكانت تشكل هوية بارزة، لكن بعد أكثر من عقد من الحرب والانهيارات الاقتصادية، صار الحديث عن هذه الطبقة أشبه بنوستالجيا جماعية لما كان ولم يعد.
يبدو التوزيع الطبقي للثروة في سوريا اليوم مشوّهاً، لا يتبع قواعد الاقتصاد المعتادة، ولا معايير العدالة، فالثروة تتركز في يد القلة، في حين الغالبية تعيش في فقر مدقع أو تفتّت اجتماعي، وأصبحت الحوالات الخارجية هي شريان الحياة الأساسي، وليس الإنتاج أو الرواتب، حتى مهن الطب والهندسة والتدريس لم تعد تضمن دخولًا مستقرة، بل قد يتحول الطبيب إلى بائع في متجر أو مسعف في الخارج، وهو ما يؤدي إلى فقدان الشعور بالقيمة، وفقدان الأمل في تحسين الوضع عبر العمل أو التعليم.
إن إعادة بناء طبقة وسطى سورية ليس مستحيلاً، لكنه مرهون بعدة شروط، أبرزها:
إصلاح الدولة إذ لا يمكن للطبقة الوسطى أن تزدهر من دون مؤسسات عادلة، رواتب كريمة، ونظام ضريبي عادل يردع الفساد ويعزز الشفافية، بالترافق مع تحقيق العدالة في إعادة الإعمار، إذ يجب أن تراعي مشاريع الإعمار حقوق المالكين الأصليين والمجتمعات المحلية، لا أن تتحول إلى أداة لتجريف ما تبقى من الطبقات المتوسطة، علاوة على أن دعم المبادرات المحلية، والاقتصاد الاجتماعي، والتعليم النوعي، يمنح الأفراد أدوات لاستعادة كرامتهم الاقتصادية بالتوازي مع كبح جماح طبقة الحرب.
لم تختفِ الطبقة الوسطى السورية تمامًا، بل تحولت، إنها تكافح اليوم وتبحث عن موطئ قدم في مجتمع تغيّر كليًا، ربما انزلق بعض أفرادها نحو الفقر، وانزوى بعضهم في الهجرة، لكنّ آخرين ما زالوا يقاومون، يعلمون أبناءهم، ويبنون حياتهم من الصفر، وإذا كان للسوريين أن يستعيدوا دولتهم، واستقرارهم، فإنّ نقطة البداية ستكون من دعم هذه الطبقة، وحمايتها، والاعتراف بأنها قلب المجتمع السوري الحقيقي، لا مجرد شريحة بين شرائح.
المصدر: تلفزيون سوريا