
تتشكّل السرديات الوطنية عبر طبقات متراكمة من الذاكرة والخيال الجمعي والتجارب التاريخية التي تعيد المجتمعات إنتاجها جيلاً بعد جيل. حيث تُمثّل هذه السرديات منظومة كلية تُعرِّف الذات العامة، وتحدد معنى الانتماء، وتمنح الأفراد إطاراً رمزياً لفهم علاقتهم ببعضهم وبالحيّز العام. وعبر هذا البناء المعقّد تتكوّن الهوية المشتركة، كعملية مستمرة تعيد فيها المجتمعات صياغة ذاتها، وتطرح الأسئلة حول أدوارها وحدودها وصورتها عن الماضي والمستقبل.
وعندما تتماسك السردية الوطنية وتنجح في خلق مساحة مشتركة للمعنى، فإن الهوية العامة تستقر على حدٍّ أدنى من التوافق، حتى إن بقيت داخلها اختلافات سياسية وثقافية، غير أن المجتمعات التي تتصدّع سردياتها، أو تتشكّل فيها روايات متعارضة حول التاريخ والرموز والشرعية، تجد نفسها أمام شروخ يصعب رتقها. فالسردية عبارة عن شبكة من المشاعر والانفعالات والتصورات التي ترتبط بفكرة الوطن ذاته، وحين تصبح هذه الشبكة مشوشة أو متضاربة، تتراجع المساحة المشتركة التي يحتاجها المجتمع للحفاظ على تماسكه.
يمكن قراءة ذلك في تجارب عديدة حول العالم، فبعض الدول التي خرجت من صراعات طويلة، أو تلك التي شهدت انتقالات سياسية معقدة، واجهت صعوبة في بناء رواية وطنية جامعة. في بعض الحالات، تنافست مجموعات متعددة على تقديم “نسختها” من الماضي، فنتج عن ذلك انقسام حاد في صورة التاريخ، وأدى غياب الرواية المشتركة إلى إضعاف مفهوم المواطنة ومفاقمة التوترات الاجتماعية. وفي دول أخرى، حاولت السلطة السياسية فرض سردية واحدة مغلقة، فكان أن ولّد هذا الإقصاء سرديات بديلة تعمل في الظل، تزداد قوة كلما واجهت محاولات الخنق أو الإنكار، وتتحول لاحقاً إلى دوائر توتر تطعن في شرعية المعنى الوطني نفسه.
لا بد من الانتباه إلى أن تفكيك السرديات الوطنية يعني كشف الطبقات التي تشكّلت منها، وفهم كيف أدّت بعض الخيارات السياسية أو الثقافية إلى إضعاف الحس المشترك، أو إلى صناعة ذاكرات متوازية؛ من الصعب أن تلتقي. فالتحليل الاجتماعي للسرديات يضع الهوية في موقعها الطبيعي، بحيث تكون عملية تفاوض مستمرة بين الذاكرة والخبرة والخيال، وهذا التفكيك يتيح للمجتمعات إعادة التفكير في رموزها، وفي الطريقة التي تُروى بها الأحداث، وفي المساحات التي تم استبعادها أو نسيانها، ليصبح النقاش حول الهوية نقاشاً صحياً لا أن يكون تهديداً للاستقرار.
في حين تكشف لنا الديناميات النفسية للجماعات أن السرديات الوطنية هي آلية عميقة لضبط القلق الجمعي، فالمجتمعات تحتاج إلى رواية تمنحها يقيناً ما، ولو كان مؤقتاً، ليساعدها على تفسير ما يحدث حولها، وعلى إيجاد مكان رمزي تستقر فيه الذات. وفي اللحظات التي تتفكك فيها السرديات أو تتصادم، يظهر ما يسميه علماء الاجتماع السياسي “الارتباك الهوياتي”، وهو حالة نفسية–اجتماعية يتراجع فيها الإحساس بالأمان، ويصبح الأفراد أكثر قابلية للانزلاق نحو الانتماءات الضيقة أو نحو تبنّي تفسيرات تبسيطية للعالم.
تتضح هذه الديناميات في المجتمعات التي عانت صدمات جماعية كالحروب أو الانهيارات السياسية أو الأزمات الطويلة، فالصدمات لا تمزّق البنية المادية للمجتمع فحسب، إذ تترك وراءها فراغاً في الذاكرة والانتماء، وتخلق منافذ لسرديات جديدة تبحث عن موطئ قدم، بعضها يتغذى على الخوف، وبعضها الآخر يسعى لإعادة بناء الثقة. وهنا تظهر المفارقة؛ بأنه كلما زاد الخوف، ازداد التمسّك بسرديات مغلقة، وكلما اتسعت المساحة للنقاش والاعتراف، زادت قدرة المجتمع على بناء سردية مرنة تستوعب التعدد.
من منظور نفسي، تصبح السرديات الوطنية شكلاً من الدفاع الجمعي ضد الضياع، وهي وظيفة لا تقل أهمية عن الوظيفة السياسية أو الثقافية، ولهذا فإن أي مقاربة نقدية للسرديات تحتاج إلى حساسية عالية تجاه الجانب النفسي، كي لا يُنظر إلى التفكيك بوصفه هجوماً على الذات، وإنما كدعوة لإعادة بناء معنى أوسع وأكثر توازناً.
بينما يكتسب العقد الاجتماعي أهميته في هذا المسار من كونه الإطار الذي تُترجَم فيه السرديات الوطنية إلى قواعد للعيش المشترك، وفيه تتجسد الهوية إلى حقوق وواجبات، ويتحول المخيال الجمعي إلى مؤسسة تنظّم العلاقة بين الدولة والمجتمع. فالعقد الاجتماعي يُبنى على قدرة المجتمع في الاتفاق ضمنياً على قصة مشتركة تحدد معنى العيش المشترك، وتحدد ما يُعتبر شرعياً، وما يُعدّ خارجاً عن الإجماع.
وأما حين تتفكك السرديات الوطنية، يصبح العقد الاجتماعي هشّاً، لأن أي عقد يحتاج إلى سردية تُبرّره وتمنحه معناً. وحين تتعدد السرديات بما يفقدها القدرة على إنتاج صورة جامعة، يتراجع العقد الاجتماعي إلى مستوى اتفاقات مؤقتة، سرعان ما تنقضها التحولات المزاجية للمخيال العام. ويمكن ملاحظة ذلك في المجتمعات التي تحاول إعادة بناء قواعدها بعد أزمات كبرى، إذ يتبدل تعريف المواطنة، وتتغير دلالات السلطة والمسؤولية، وتظهر تصورات جديدة عمّن يملك الحق في تمثيل الكل ومن يملك شرعية اتخاذ القرار.
ومن زاوية علم الاجتماع، يصبح العقد الاجتماعي الحقيقي هو ذاك الذي ينسجم مع التحولات العميقة في هوية المجتمع ومخياله. ومهما بدت النصوص الدستورية محكمة، فإنها لا تستقر ما لم تستند إلى سردية مقبولة، مهما كانت مرنة، تشرح لماذا يحتاج الأفراد إلى الارتباط ببعضهم، ولماذا يستحق المجال العام الحماية، ولماذا يصبح العيش المشترك أكثر جدوى من الانسحاب إلى الهويات الصغيرة.
وبينما يوفّر المخيال الجمعي صوراً رمزية تُلهِم شكل العقد الاجتماعي، فإن الهوية تحدّد مجالَ تطبيقه وحدودَه الأخلاقية. فالمجتمع الذي يفشل في تحديد إجابته عن سؤال “من نحن” لن ينجح في الإجابة عن سؤال “كيف نعيش معاً”. ولهذا، يصبح تفكيك السرديات الوطنية خطوة تمهيدية ضرورية لبناء عقد اجتماعي متماسك، يعتمد على الاعتراف بالتعدد، وبأن شرعية المستقبل تُصنع عبر مساحة واسعة قادرة على استيعاب الأصوات المختلفة من دون أن تفقد القدرة على إنتاج معنى عمومي قابل للاستمرار.
من نافل القول، أن تكون الحاجة إلى مراجعة السرديات الوطنية جزءاً من عملية نضج المجتمعات، ورغبتها في بناء هوية أكثر اتساعاً ومرونة. فالسردية المتماسكة هي تلك التي تتسع للتعدد، وتتقبل إعادة القراءة، وتمنح الأفراد القدرة على رؤية أنفسهم داخل قصة أكبر دون الشعور بالإقصاء أو التهميش. والمجتمع الذي يملك الجرأة على إعادة التفكير في روايته المشتركة، هو مجتمع قادر على صياغة عقد اجتماعي أكثر صلابة، لأن هويته تقوم على الاعتراف، وتُبنى على المشاركة، وتُدار بالحوار القادر على منح الذاكرة دوراً في المستقبل.
المصدر: تلفزيون سوريا






