
تقدم سوسيولوجيا الانحراف الاجتماعي، كما صاغها إميل دوركهايم وروبرت ميرتون، مفهوم الأنوميا بوصفه حالة انهيار في البنية الرمزية والمعيارية للمجتمع، حين تفقد الجماعة قدرتها على إنتاج معنى مشترك وإطار جامع للانتماء. وتظهر الأنوميا بوصفها خللاً يتجاوز السلوك الفردي ليطول منظومات المعنى التي تنظم علاقة الأفراد بمحيطهم وفي الحالة السورية، برزت هذه الظاهرة بالتزامن مع صعود جماعات ذات نزعات انفصالية أعادت تشكيل الهويات والمفاهيم الجغرافية والسياسية وفق رؤى ضيقة، متجاوزة الذاكرة الجماعية ومتعارضة مع التصور الوطني الجامع خاصة الذي تبلور خلال فترة التحرير. وتتجسد هذه التحولات في حالتين معاصرتين وأولها سعي قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى ترويج تسمية روج آفا لمناطق شمال شرقي سوريا باعتبارها إطاراً هوياتياً وسياسياً بديلاً، وبروز فصائل الهجري في السويداء ومحاولتها إنتاج سردية محلية ذات نزعة انفصالية تمظهرت في العديد من المحطات العسكرية والسياسية وآخرها إعادة تسمية جبل العرب باسم جبل باشان ومحاولة ابتكار تاريخ متخيل خارج السياق السوري الوطني المعاصر.
قسد وإعادة تشكيل الهوية المكانية
شهدت مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية مساراً متدرجاً لإعادة تشكيل المفاهيم الرمزية والجغرافية، حيث جرى فرض تسمية روج آفا بوصفها إطاراً دون وطني لا يستند إلى أي إجماع سوري، ويأتي في سياق لا يعكس التاريخ اللغوي أو الديموغرافي للمكان ومع تراكم هذا الخطاب، أخذت البنية الاجتماعية تتحول بصورة متسارعة، الأمر الذي أفضى إلى نتائج سوسيولوجية متشابكة تتداخل فيها مستويات الهوية والمكان. فمن جهة أولى، برز تفكيك الذاكرة المحلية حين استبدلت المفاهيم المتجذرة في الوعي السوري بمصطلحات جديدة تقحم الهويات القومية فوق التاريخ المحلي، مما أدى إلى اتساع الفجوة بين السكان الأصليين والنسق الانفصالي الذي فرض عليهم. ولا يتوقف هذا التفكيك عند حدود اللغة أو التسميات، وإنما يمتد ليشمل إعادة تشكيل المخيال الجمعي ذاته، بحيث تعاد صياغة مرويات الماضي وتفسيراته بما يخدم مشروعهم، فيتحول التاريخ من سردية جامعة إلى روايات متعددة لا تتقاطع إلا في حدود ضيقة. ومن جهة ثانية، ظهر اتجاه واضح نحو إنتاج جغرافيا متخيّلة، حيث تُقدَّم المنطقة وفق خطاب قسد بوصفها جزءا من مشروع سياسي عابر للحدود، وهو ما لا يحظى باعتراف الدولة ولا بقبول شريحة واسعة من المجتمع. وبهذا تتأسس مفارقة جغرافية لافتة حيث يتنقّل المكان بين واقعيته المادية المرتبطة بالدولة السورية، وبين جغرافيا معاد إنتاجها خطابياً لتخدم تصوراً سياسياً انفصالياً. وتخلق هذه الازدواجية حالة من “اختلال المعنى الجغرافي” حيث تصبح الحدود السياسية والرمزية للمكان موضع تنازع دائم.
وإلى جانب ذلك، نشأت حالة من الازدواجية القيمية أسهمت في بروز الأنوميا، حيث يجد السكان أنفسهم يعيشون في جغرافيا لها تاريخ سوري واضح، وفي الوقت نفسه يطلب منهم الاندماج في خطاب بديل ينفي هذا التاريخ. وتنتج هذه الازدواجية اختلالاً في منظومة المعايير الاجتماعية، حيث يفقد الأفراد القدرة على تحديد ما هو مشروع وما هو منبوذ، وما ينتمي إلى الهوية الجمعية وما ينتمي إلى خطاب مفروض ونتيجة لذلك يظهر شعور متنام بالاغتراب، سواء على مستوى الهوية الفردية أو الانتماء الجمعي، لاسيما عندما تتحول الرموز والأسماء والمفاهيم إلى أدوات لإعادة هندسة الانتماء بدل أن تكون تعبيراً صادقاً عنه.
وفي هذا السياق، جاء اتفاق آذار بين قوات سوريا الديمقراطية والحكومة السورية الجديدة ليشكل لحظة فارقة كان يمكن أن تسهم في إعادة دمج المنطقة ضمن الإطار الوطني العام، عبر ترتيب سياسي يضمن الاعتراف ويعيد ضبط العلاقة بين المركز والأطراف إلا أنّ عدم تطبيق هذا الاتفاق على الأرض عمّق حالة الازدواجية القائمة؛ حيث وجد السكان أنفسهم بين خطاب رسمي يعد بإعادة توحيد البنية الوطنية، وخطاب محلي يستمر في تكريس هوية بديلة لا تتطابق مع مضمون الاتفاق ولا مع تطلعات شريحة واسعة من السوريين، الأمر الذي يجعل غياب التنفيذ عاملا إضافيا في إنتاج الأنوميا وتعزيز الانفصال بين المرجعية القانونية للدولة والمرجعية الخطابية التي تفرضها قسد، وبذلك تتراكم هذه الديناميات المتشابكة لتدفع المجتمع نحو مزيد من التشظّي، فتحوله إلى كيانات صغيرة متعارضة تتقاطع وتتصادم في رؤاها، مما يقلّص بدوره فرص التماسك والتكامل داخل البنية الوطنية.
الهجري وإنتاج الهوية الانفصالية
في الجنوب السوري، تبرز حالة موازية لحالات الأنوميا التي تشهدها مناطق أخرى؛ لا سيما فصائل الهجري التي تعمل على صياغة سردية جديدة تهدف إلى إبعاد المكوّن الدرزي الأصيل عن هويته السورية الجامعة، وذلك من خلال إعادة تسمية جبل العرب باسم جبل باشان، ويأتي هذا التحوّل باعتباره محاولة لإعادة بناء التاريخ على نحو يعيد إنتاج حدود ثقافية–سياسية عدائية، بحيث يتحوّل الاسم من إحالة جغرافية وطنية إلى رمز لهوية منفصلة تسعى إلى ترسيخ ذاتها، ومن ثمّ يتجلّى أثر هذا التحوّل في مستويات متعددة؛ فابتداءً من هندسة الانتماء، تُقدم الهوية المحلية ضمن خطاب يصوّرها بوصفها هوية مستقلة ومتعالية على الهوية الوطنية، الأمر الذي يدفع الأفراد إلى النظر إلى فضائهم السوري على أنه محيط غريب لا ينتمون إليه، وانطلاقاً من هذا المنظور، يتبدّى تسييس الجغرافيا حين تستدعى تسميات مستمدّة من أفكار ومعتقدات الكيان الصهيوني مثل (باشان) لإنتاج رمزيات انقسامية جديدة، من غير مراعاة للموروث الوطني الذي تراكَم عبر عقود طويلة من التشكل الاجتماعي والسياسي.
وتزداد هذه التحوّلات عمقاً مع الوقائع الميدانية الأخيرة؛ حيث شهدت المحافظة مفاوضات رسمية جمعت ممثلي الحكومة، وعلى رأسهم محافظ السويداء، مع مشيخة العقل وقادة الفصائل المحلية في محاولة لاحتواء التوتر وإعادة انتظام الحياة العامة. غير أنّ هذه المفاوضات سرعان ما تحوّلت إلى دليل إضافي على تفكك المرجعيات، بعدما تعرّض المحافظ وعدد من عناصر الأجهزة الرسمية لاعتداء مباشر، وهو ما كشف عن مدى تغوّل الفصائل وقدرتها على تعطيل سلطة الدولة، فضلاً عن إظهار حجم الشرخ بين الخطاب الانفصالي والسلطة الشرعية، وقد شكّل هذا الاعتداء لحظة مفصلية تبرز انتقال الفصائل من إنتاج سرديات رمزية إلى ممارسة هيمنة ميدانية فعلية، متجاوزة بذلك حدود التفاوض، ومعبّرة عن مستوى كبير من تفكك البنية الضابطة للمجتمع. وفي موازاة ذلك، أدّت المحاولات المنهجية الرامية إلى إضعاف منظومة الدولة في السويداء والالتفاف على صلاحياتها إلى استمرار حضور فاعلين مؤثرين داخل المجالين الاجتماعي والاقتصادي، وفي مقدمتهم تجّار المخدرات والشبكات المستفيدة من اقتصاد الفوضى. وقد أتاح تراجع الدولة حالة من اللانظام وفّرت بيئة خصبة لتوسيع نشاط هذه الشبكات وتعزيز نفوذها داخل النسيج المحلي، مستغلة ضعف الرقابة الرسمية وانشغال المجتمع بصراعات الهوية وإعادة تعريف الانتماء وعلى هذا الأساس، تتقاطع مصالح الفصائل ذات النزعات الانفصالية مع مصالح هذه المجموعات غير القانونية، ليشكّل الطرفان معاً بنية موازية تتقدّم على حساب السلطة الشرعية، وتعمّق حالة الأنوميا عبر تفكيك القواعد الأخلاقية والمعايير الضابطة للسلوك الجماعي، الأمر الذي يسرّع تحول المجتمع إلى فضاء مفتوح على مزيد من الفوضى واللامعيارية.
ومع هذا التداخل المركّب بين السردية الانفصالية والتغوّل الميداني والفوضى الاقتصادية، تتعزز حالة الأنوميا داخل المجتمع نفسه؛ حيث تتآكل وحدة الجماعة أمام انقسام داخلي يتشكّل بين من لا يزال يرى نفسه جزء أصيلاً من الإطار الوطني السوري، وبين من يسعى إلى إعادة تعريف هويته ضمن منظومة رمزية جديدة تقوم على العزلة والانفصال وبذلك، لا يقتصر دور هذه الجماعات على إنتاج واقع مشوَّه، وإنما تذهب أبعد من ذلك عبر تفكيك الوعي التاريخي للجماعة وسلخها عن عمقها الاجتماعي، فتدفعها تدريجياً إلى الابتعاد عن سياقها الواعي والعياني في اللحظة نفسها التي تشيّد فيها سرديتها الخاصة وتؤسس لمرجعيات بديلة تناهض المرجعية الوطنية الجامعة.
الخاتمة
تظهر الحالتان – في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية وفي الجنوب تحت نفوذ فصائل الهِجري – كيف تسهم الجماعات الانفصالية في إعادة تشكيل المعنى الرمزي والجغرافي للمجتمعات، ولذا تنشأ حالة أنوميا متجذرة تتجاوز حدود الاضطراب العابر، ذلك أنّ هذه الممارسات لا تقتصر على تفكيك الذاكرة المحلية وإنما تمتد كذلك إلى إنتاج جغرافيا متخيّلة وهندسة أنماط انتماء جديدة تعمّق الازدواجية القيمية داخل المجتمع، ومن ثمّ يؤدي هذا المسار إلى خلق شعور متزايد بالاغتراب وإضعاف التماسك الاجتماعي. وهكذا يتضح أنّ الأنوميا ليست نتاج فوضى عشوائية، وإنما هي نتيجة مباشرة لمحاولات متعمّدة لإعادة كتابة التاريخ وصياغة الهوية بما يخدم مشاريع الانفصال بحيث تجد المجتمعات نفسها أمام عملية انفصال عن ذاتها وعن سياقها الواعي، في الوقت الذي تغدو فيه استعادة المعنى المشترك تحدياً جوهرياً أمام أي مشروع وطني يسعى إلى إعادة البناء والوحدة والتكامل.\
المصدر: تلفزيون سوريا






