العالم يعود القهقرى إلى الخمسينيّات

محمود الريماوي

تتصاعد اعتراضات شرائح اجتماعية واسعة في أوروبا على استمرار الدعم التسليحي والمالي لتل أبيب، لكن مسؤولاً رفيعاً، هو المستشار الألماني فريدريش ميرز، لخّص موقف حكومة بلاده بالقول “إن الأصدقاء قد يوجّهون انتقادات لبعضهم، غير أنهم يرفضون توقيع عقوبات ضدّ بعضهم بعضاً”. وقد قادتْ ألمانيا حملةً داخل مؤسّسات الاتحاد الأوروبي لمنع توقيع أيّ عقوباتٍ على دولة الاحتلال، بالتزامن مع شنّ حملة دبلوماسية تدعو حكومة بنيامين نتنياهو إلى وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب على غزّة. (في وقت متأخّر أمس الجمعة، أعلن المستشار ميرز وقف بلاده تصدير اسلحة عسكرية إلى تل أبيب يمكن استخدامها في غزّة، وهي خطوة جيدة تستحق استكمالها والبناء عليها، من أجل الضغط الفعلي على حكومة نتنياهو).

دولة أخرى على جانب من الأهمية هي بريطانيا، صعّدت حملتها الدبلوماسية على حكومة نتنياهو، ووصفت على لسانَي رئيس وزرائها، كير ستارمر، ووزير الخارجية ديفيد لامي، السلوك الإسرائيلي في غزّة بأنه “مقزّز”. غير أن حكومة حزب العمّال لا تتطرّق إلى العقوبات، ولا إلى وقف تصدير الأسلحة والمعدّات العسكرية، ولا إلى وقف التعاون الاستخباراتي مع العمليات الإرهابية التي ترتكبها حكومة نتنياهو ضدّ جموع المدنيين في القطاع. وقبل أيام كشفت صحيفة التايمز عن تعاون بريطاني في مجال تتبّع البحث عن الأسرى الإسرائيليين، بالتوازي مع الضغط الذي يمارس على هيئات ناشطة ضدّ حرب الإبادة، وبالذات هيئة “بالستاين آكشن”. ولا يختلف الوضع كثيراً في ألمانيا، فالتنديد بحرب الإبادة هناك يُعتبر (من وجهة نظر السلطات) أقرب ما يكون إلى نشاطٍ معادٍ للسامية. ومن أجل البرهنة على عدم العداء للسامية ينبغي غضّ النظر عن الحرب الوحشية التي تخوضها حكومة نتنياهو ضدّ سكّان غزّة، فيما أوجُه التعاون مع الأصدقاء في تل أبيب على حالها، إذ إن الولوغ الإسرائيلي في هذه الحرب القذرة، لا يمسّ نيّات الصداقة مع مجرمي الحرب، وهو ما حمل الممثّل الأعلى للاتحاد الأوروبي السابق، جوزيب بوريل، على القول في مقال كتبه في “الغارديان” إن من لا يتحرّك لوقف هذه الإبادة الجماعية، وهذه الانتهاكات (مع امتلاكه القدرة على ذلك)، يُعدُّ متواطئاً فيها.

من المشين أن يكون الدعم الفعلي لحرب الإبادة هو المدخل إلى حلّ الدولتَين، أو البرهان على سلامة السياسات

أمّا واشنطن، مع الولاية الثانية لدونالد ترامب، فإنها لا تكتُم تطابق مواقفها مع حكومة المتطرّفين في تل أبيب، فالسعي إلى الاستيلاء على الضفة الغربية وضمّها للدولة العبرية تنظر إليه هذه الإدارة إنجازاً وخطوةً قابلةً للنجاح، بينما يوكل مصير غزّة إلى إسرائيل لتقرّر فيها ما تشاء حسب الرخصة المفتوحة الممنوحة من سيّد البيت الأبيض، فيما تتفاقم الحملة المكارثية في بلاد العم سام ضدّ كلّ من يقف مع حقوق الفلسطينيين، بمن في ذلك مسؤولو الأمم المتحدة ووكالاتها وهيئاتها.
لم يخطر ببال الأجيال الجديدة أن عواصم زاهرة في الغرب يمكن أن تتخلّى عن ادّعاءاتها بنصرة حقوق الإنسان إلى هذه الدرجة، ومعها حقوق الأطفال والنساء والمسنّين، وقيم الحرية والمساواة وبقية قيم التنوير، من أجل تركيز الحرب على كلّ ما في قطاع ساحلي بمساحة 360 كيلومتراً مربّعاً. غير أن هذا التوحّش (دعك من التعاطف اللفظي الذي يدحضه الدعم السخي لحكومة مجرمي الحرب). ودعك حتى من تأييد حلّ الدولتَين، فمن المشين أن يكون الدعم الفعلي لحرب الإبادة المدخل إلى حلّ الدولتين، أو البرهان على سلامة السياسات. ويغدو الأمر أكثر إثارة للتأمّل مع استذكار أن غزّة قد نالها من قبل نصيب من حرب غربية عليها، ففي أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1956 تعرّضت غزّة، إلى جانب بورسعيد المصرية، لحرب إسرائيلية مدعومة من بريطانيا في ما عرف بالعدوان الثلاثي. وقد شاركت آنذاك بريطانيا وفرنسا في هذه الحرب التي ارتُكبت فيها مجازر في القطاع، وبالذات في خانيونس، إلى جانب ما لحق بمدن بورسعيد والسويس من تدمير. وقد ضغطت الولايات المتحدة آنذاك مع الاتحاد السوفييتي لوقف الحرب وانسحاب القوات الإسرائيلية الغازية من قطاع غزّة، وعادت الإدارة المصرية إليه.

الجدال لم يعد حول حقوق الإنسان، بل حول من يُستثنى من هذه الحقوق حين تتعارض مع المصالح الغربية

ومنذ خريف العام 2023 شاركت واشنطن مع عواصم غربية في دعم الحرب الشاملة على غزّة. وبدّلت هذه العواصم شعاراتها في حربها الجديدة الى الدفاع عن النفس ومكافحة الإرهاب، لكنّها حافظت على نهجها الاستعماري المشحون بأيديولوجية التفوق و”الصراع الحضاري” والاستهانة بحياة البشر الآخرين، وفي واقع الحال إن التفوّق التسليحي وشبكات الدعم وفّرا غطاءً كافياً لشنّ حرب وحشية شاملة، أصابت شرائح اجتماعية واسعة في الغرب بصدمة شديدة، وخاصّة في صفوف من كانوا مؤيّدين للصهيونية والدولة العبرية من الأجيال الجديدة، الذين استيقظوا على حقيقة أن الدولة الإسرائيلية نشأت في أرض فلسطين في العام 1948، وارتُكبت مجازر ضدّ أبناء البلاد، لتمكين الدولة الجديدة من الولادة في أجواء من احتفالات دموية، وأن هذ الدولة تنمو وتتوسّع بالدعم الغربي، وبارتكاب المزيد من المجازر، مع المواظبة على محاولة استئصال الشعب الفلسطيني، وهو ما يحدث منذ 22 شهراً بصورة علنية واستعراضية في غزّة، فيما يزعم أوروبيون، وعرب كثر، أنه ليس في أيديهم ما يمكنهم فعله لوقف هذه الفظائع، لكنّ في وسعهم العمل حينما يتعلّق الأمر بأطراف أخرى في عالمنا غير دولة الاحتلال.
صدمة الوعي هذه لدى الأجيال الجديدة في الغرب تجد ما يناظرها لدى شرائح واسعة في المجتمعات العربية في نظرتها إلى الغرب، إذ هناك في تلك الدول المتقدّمة من يتمسّك بحقوق الإنسان وينبذ العنصرية، ويقف مع العدالة في كلّ مكان، وهناك لدى المؤسّسات الكبيرة الأكاديمية والإعلامية والحزبية ومجمّعات رجال الأعمال في الغرب من لا يمانع في تجديد النظرة الاستعمارية إلى الشرق، وهذا الشرق بات يضمّ الصين، وبدرجة أقلّ روسيا مع العرب والدول الإسلامية، وكأنّ العالم يعود القهقرى إلى أواسط القرن الماضي، مع رياح لافحة من أجواء الحرب الباردة، وطبعاً بمواصفات جديدة، ومع تغيّر في تموضع بعض المصطفّين، ومع دخول العوامل الاقتصادية والتكنولوجية في معادلات موازين القوى.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. العهر السياسي الغربي يتجلى بالموقف من القضية الفلسلإينية والكيان الصhيوني والدولة الوظيفية “إٍSرائيل” حل الدولتين بدون حدود للدولة الفلسTينية، واستمرار الدعم التسليحي والمالي لTل أبيب، مثلما قال المستشار الألماني فريدريش ميرز، “إن الأصدقاء قد يوجّهون انتقادات لبعضهم، غير أنهم يرفضون توقيع عقوبات ضدّ بعضهم بعضاً” وهذا ينطبق على الدويلة الوظيفية “إٍSرائيل”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى