إن ظهور الديمقراطية ومجموع الحقوق الملازمة للشخصية الإنسانية في الغرب الرأسمالي واقعة تاريخية لا تنتقص من عالميتها ولا من كونها نتاجاً انسانياً تحوّل الى نموذج عالمي حقق إجماعاً بشرياً واسعاً وهائلاً. حتى إن بعض الإسلامين الذين يعتبرون ان الديمقراطية قيم مشوّهة ونظام كفر يهربون الى الغرب نتيجة لظلم أنظمتهم والذي يؤمّن لهم ممارسة عقائدهم المختلفة ويسمح لهم التصريح عن آرائهم وقناعاتهم دون وجل أو خوف. وهذا غير متحقق في بلدانهم الإسلامية.. الديمقراطية نشأت وترعرعت في أحضان الرأسمالية هذا صحيح ولكنها لا ترتبط بها ارتباطاً عضوياً. فليس بالضرورة أن تكون كل رأسمالية ديمقراطية.
فالرأسمالية التي حملت جنين الديمقراطية هي نفسها تعايشت مع النازية والفاشية.. فحينما قامت الدولة الدستورية ووطّدت سلطتها بعد إن هدمت مفهوم السلطة المطلقة للنظام الإقطاعي والتي أصبحت معيقة لحركة تطوّر المجتمع وما حملته الثورة الصناعية من تغيّرات استولدت الديمقراطية السياسية التي تؤمّن مصالحها ولم تتعدّاها الى الديمقراطية الاجتماعية التي جاءت من خلال صيرورة تطوّرية تاريخية تحققت عبر نضالات شعوب العالم أجمع ولم تأت منّةً من الأنظمة الحاكمة .وعلى سبيل المثال الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود حملة الديمقراطية التي تدّعيها لم يحصل السكان الأصليون فيها وهم الهنود الحمر على حقوقهم السياسية والاجتماعية كما هي عليه اليوم إلاّفي ستينيات القرن الماضي .فمن المؤكد إن الديمقراطية بدأت تلقى رواجاً كبيراً على المستوى العالمي بعد سقوط الإتحاد السوفيتي والأنموذج الاشتراكي بكامله حيث اشتدت رياحها لتقتلع كل الصادات التي زُرعت في طريقها من قبل أنظمة الاستبداد المعادية بطبيعتها للديمقراطية حتى وصلت ولو متأخرة الى بلداننا لتهدم قلاع الخوف والقهر والتسلّط التي قيّدت مجتمعاتنا وغلّتها لسنوات طويلة والتي باتت هذه القلاع عاجزة عن حماية نفسها من الاختراق الإنساني وتسونامي الشعوب المطالبة بحريتها وكرامتها. لقد أَفَلت وغابت شمس الشرعية الثورية التي تقوم على إقصاء الآخر والادعاء بامتلاك الحقيقة عبر نظام الحزب الواحد .وفقدت بريقها وقدرتها على تأبيد عزل المجتمع وتهميشه وإبعاده عن المشاركة الإيجابية في تقرير مصيره والدفاع عن مصالحه .فنظام الوصاية على المجتمع وفرض المعتقدات الإكراهية عليه وغير الناتجة عن قناعة وإنّما خوفا من الملاحقة وتجنّباً للمسائلة وتزلّفاً للمصلحة أضعفت لدى المجتمع الشعور بالمسؤولية العامة .لأن الفرد يفقد دوره في المشاركة الحرة والإيجابية في تقرير مصيره الفردي والجماعي ممّا أدّى إلى وجود هوّة سحيقة بين سلطة احتكرت كل شيء وأنتجت قيادات سياسية مستبدّة فرضت الطابع الاستبدادي على المجتمع وانتهجت سياسات ارتجالية قادت مجتمعاتها الى أزمات متلاحقة .ولتأمين مصالحها وعدم قدرتها أو استعدادها لتحمّل جرعة الديمقراطية التي تنسف مشروعية حكمها لجأت الى كم الأفواه ومنع العمل في السياسة ومصادرة حق التعبير، والعمل على ضبط ايقاع تحرّك مواطنيها بما يتلاءم مع مصالحها وتأبيد سلطاتها .وبذلك عطّلت القوّة الإبداعية للجماهير وأعاقت تطوّر مجتمعاتها بدلاً من بنائها. وحالت بين شعوبها وطموحاتها الإنسانية المحقة والمشروعة لنيل الحرية والكرامة والحقوق لعقود خلت. لكن التاريخ يقول لنا من خلال استقراء ورصد وقائعه إن الشعوب لا يمكن أن تبقى مستكينة للظلم وتغييب الحقوق لابد وأن تثأر لكرامتها وتتخلّص من عبوديتها مهما كلفها ذلك من تضحيات…
فالربيع العربي عامة والثورة السورية بشكل خاص خير دليل على ذلك رغم كم التضحيات وحجم الألم… رغم المسارات المتعثرة وحجم الممانعة الذي تبديه انظمة التسلط والنهب والجريمة ومحاولاتها تسميم بذرة الحرية. فهي عصية فقد تجذّرت في عمق ارضنا الطيبة التي تعمّدت بدم أبنائنا وعذاباتهم. فهي عصية على الاقتلاع. ستبقى تتسع على مساحة صحرائنا القاحلة لتعيد لها خضرتها ونُضرتها، وستُزهر مواسمنا غلالاً وفيرة بعد شح وقحط.