في وسط ازدحام المشكلات الحياتية التي تعانق اللبنانيين في ليلهم ونهارهم، وفي أحلامهم وآمالهم أيضا؛ تفتّقت عبقرية السلطة اللبنانية بإطلاق ما أسمته قانون العفو العام، وانطلقت معه أطراف السلطة الفاسدة في عمليات مساومة ومقايضات، ذوات طابع طائفي ومذهبي وحزبي وفئوي، واشتغلت عملياتهم في المزايدات الكلامية الفارغة بالوطنية والهوية والولاء والانتماء.
فهل أن صحوة ضمير انتابت بعض السلطة، فأحست فجأة ومن دون سابق عهد أو علامات؛ بمسؤولية تجاه اللبنانيين المراد العفو عنهم؟ أم أن للأمر أبعاداً أخرى؟!
1 – إن طرح هذا الموضوع الإشكالي الخلافي الآن، وفي مثل الظروف الخانقة التي تضغط على حياة اللبنانيين وعقولهم وأعصابهم وحالتهم النفسية، المتأزمة جراء الأداء السيء الفاسد للسلطة؛ إنما يدل بوضوح على محاولة جديدة من السلطة ذاتها، للالتفاف على الانتفاضة الشعبية، التي عاودت تحركها بعد تخفف ظرفي طارئ.
2 – إنه محاولة جديدة، لإلهاء اللبنانيين عن التفكير والاهتمام بمشكلات وطنهم وحياتهم الحقيقية، وفي مقدمتها فساد السلطة وانهيار الاقتصاد وسرقة الأموال والودائع والمجاعة والفقر والبطالة.
3 – محاولة من السلطة، لينسى اللبنانيون قضية المال العام المنهوب والأملاك العامة المعفشة والمرافئ المهربة، والتوقف عن الضغط باتجاه استردادها ليستمر الوضع القائم كما هو.
4 – إن إعطاء العفو العام طابعا طائفيا ومذهبيا وفئويا، إنما يهدف الى إعادة بعث مشاعر الاحتقان الطائفي والمذهبي، وإحياء الانقسامات المجتمعية، وفق هذه المشاعر البغيضة الكريهة المؤذية، وبالتالي، تنفيس الاحتقان الشعبي ضد السلطة، وتحويله إلى مشاحنات ومبادلات كلامية واتهامية، تبعد نظرهم عن فساد السلطة ومسؤوليتها التامة عن الانهيار، وعجزها عن إيجاد أيّ حلّ لأيّ مشكلة في أي مجال.
5 – محاولة جديدة لاكتساب رضى وتأييد بعض اللبنانيين المشمولين بالعفو وعائلاتهم؛ وعلى أسس مذهبية أيضا؛ من خلال إفادة أطراف السلطة لهم بأنهم يتبنون مطالب “جماعاتهم” ويتمسكون بها، فهذا طرف سنّي يطالب بالمعتقلين السُنّة، وذاك شيعي وثالث ماروني، وهكذا. يحاولون تعويم شعبيتهم المتدهورة، بمثل هذه الحركات البهلوانية الكريهة.
6 – المعتقلون “الإسلاميون” ، ومعظمهم سُنّة، قضية غير مفهومة، بخاصة وأن كثيرين منهم لم يحاكموا، ولم توجّه إليهم أيّ اتهامات، وهذا يثير شكوكا حول توقيفهم، وقد قيل أنهم يستخدمون للتجييش المذهبي وللمقايضة في وقت مناسب.
فليحاكم كل من ثبتت عليه تهمة التعدّي على الوطن بالسلاح وليحكم، فلا عفو عن مجرم من دون محاكمة وحكم، ويطلق من لا تهمة علية ولا حكم، لأن استمراره توقيفه ظلم واضح غير مقبول.
7 – المطلوبون للعدالة الهاربون، ومعظمهم شيعة، منهم من لديه سوابق إجرامية، ويشكل خطرا على أمن المجتمع وسلامته، فكيف يطلق من دون عقاب ولا حتى محاكمة؟ اليس في هذا تشجيع على احتراف الصياعة والضياع والتطاول على الحقوق العامة والخاصة؟! أليس من اللازم أن يطالبوا بتسليم أنفسهم للعدالة، ويحاكموا وتصدر الأحكام التي يستحقونها، ثم تخفف بعضها أو يفرج عمن أحكامه بسيطة، ومن كان منهم مطلوبا بجرم خاص، يعفى عنه من الحق العام، إذا تنازل أصحاب الحق الخاص عن حقهم.
8 – المّبعدون أو الهاربون (العملاء) إلى دولة العدو الإسرائيلي: وهي القضية الأكثر إشكالية في الأمر، لذا ينبغي معالجتها من منطلقات وطنية أولا، وإنسانية ثانيا. ولا ينبغي أن يغيب عن بال أحد أن “إسرائيل” دولة عدو للبنان حسب نص الدستور، وعلى هذه القاعدة يجب معالجة الأمر، فهم لا يستوون أصلا من حيث الاتهام والمسؤولية.
كثيرون منهم فرّوا هروباً، ولجأوا إلى أرض فلسطين المحتلة، ربما خوفاً من انتقام محتمل من الأطراف اللبنانية الآتية إلى المناطق التي انسحبت منها قوات الاحتلال.
وقد قيل سابقا كلام كثير في تبرير تعاون بعضهم مع قوات الاحتلال، بمنطق الأمر الواقع، والرضوخ والاضطرار الحياتي المعيشي الأمني، أما وقد لجأوا إلى هناك خوفاً أو قناعة أو تفضيلا، فالأمر يحتاج إلى معالجة وفق المعايير التالية:
– هل يرغبون هم في العودة إلى لبنان؟
– هل حصل أن تقدم أحدهم أو جماعة منهم بطلبات من أجل العودة إلى الوطن؟
هل أثاروا هم هذه المسألة؟
إذا لم يكن أحد منهم أو جماعة قد أثاروا مسألة عودتهم إلى لبنان؛ فما معنى أن يثير نظام الوطن ذاته مسألة عودتهم وهم لا يطالبون بها؟
هل يعني ذلك وجود صفقة، التزم بها بعض أطراف السلطة مع حكومة العدو، لغرض ما غير واضح أو معروف؟
هل قبض هذا الطرف أو ذاك ثمنا لهذا العفو؛ مُنصباً رفيعا أو سلطة أو نفوذا أو حتى نقودا كثيرة؟
– هم هاربون وليسوا مبعدين، لم يجبرهم أحد على المغادرة، واللجوء إلى الأرض المحتلة، والدليل، أن سكان المناطق المتحررة بخروج الاحتلال عنها بقوا في ديارهم ولم يتعرض لهم أحد.
– كثيرون منهم تحصلوا على الجنسية “الإسرائيلية” (من العدو الصهيوني)، بحكم إقامتهم وظروف عملهم ورغبتهم أيضا.
فمن كان يريد منهم العودة إلى لبنان، ينبغي علية التخلّي العلني والقانوني والنهائي عن جنسية العدو؛ كشرط أساسي للسماح له بالعودة.
ولأن “إسرائيل” عدو للبنان حسب نص دستوره، فلا يمكن ولا يقبل أن يجمع لبناني بين جنسيته وجنسية دولة العدو.
كما يجمع كثير من اللبنانيين بين جنسيتهم اللبنانية وجنسية دولة أخرى.
ومن لا يريد التخلي عن جنسية العدو؛ تسقط عنه الجنسية اللبنانية.
– يسقط من الحسبان نهائيا كل من انضم إلى المؤسسة العسكرية أو الأمنية لدولة العدو، فلا ينبغي السماح بمجرد مناقشة أمره، سواء طلب العودة أم لم يطلب.
– إن الذين تعاونوا مباشرة مع قوات الاحتلال، قبل انسحابها من الجنوب اللبناني، وشاركوا في اعتقال أو تعذيب أو إيذاء لبنانيين آخرين؛ ويرغبون بالعودة إلى لبنان؛ فبعد تخليهم عن جنسية دولة العدو، يُقَدمون الى المحاكمة أمام القضاء العسكري اللبناني، وينظر في أمرهم ويُحكموا بما يستحقون.
– تشكيل لجنة وطنية من محامين وقانونيين وناشطين مدنيين واجتماعيين، لدراسة كل حالة بمفردها، ووضع برنامج لإعادة تأهيل العائدين نفسيا وثقافيا.
– بالعودة إلى الحالة اللبنانية العامة، وتحديدا حول قضية اللاجئين إلى دولة العدو الإسرائيلي؛ فإن كثيرا من اللغط القائم حولها، مرده إلى كثير من النفاق والمخادعة والمناورة لدى أطراف السلطة اللبنانية.
إن التجربة في العقدين الأخيرين، تبين أن صفقات عقدت ومقايضات تمت، بين أطراف حزبية وميليشيوية، أدت إلى نتائج مخزية على صعيد التعاطي مع مسألة “العملاء”، ولعل آخر تلك الصفقات – الفضيحة، كانت مسرحية إخلاء المدعو (العميل) عامر الفاخوري، بالطريقة المذلة المهينة للحكومة والسلطة والدولة والقضاء والجيش وكل الكيان اللبناني.
المدعو الفاخوري، يحمل جنسية العدو، وكان عميلا أمنيا مباشرا، شارك في قتل وتعذيب لبنانيين طوال عدة سنوات؛ ومع ذلك دخل لبنان مطمئنا، وحين تم توقيفه قضى مدة توقيفه في مستشفى خاص معززاً مكرما؛ ثم غادر لبنان منتصراً، بمعرفة وموافقة الجميع، وأولهم الحكومة و”حزب الله” وأطراف السلطة.
– أما التعاطي مع أولئك اللبنانيين الذين ضبطوا متعاملين مع أجهزة استخبارات دولة “إسرائيل”، فلم يكن أكثر وضوحا أو عدلا، فقد تم الإفراج عنهم جميعا، من دون أن يقضوا محكوميتهم.
ومنذ سنوات توقف التحري أصلا عن وجود متعاملين مع دولة العدو، وكأن هذا العدو قد تآخى مع لبنان، فلم يعد بحاجة إلى متعاونين عملاء، أو أنه استغنى بالمتصهينين عن العملاء؟
– ينصّ اتفاق مار مخايل بين “التيار الوطني الحر” (العوني) و” حزب الله”، على عودة المُبعدين (العملاء) أي اللاجئين إلى دولة العدو. وهذا يفسر امتناع “حزب الله” (الذي يرتبط باتفاق أمني مع “إسرائيل”، يقضي بوقف الحرب وعدم الاعتداء وفصل القوات وحماية الحدود، وهو الاتفاق الذي تم بعد عدوان تموز 2006؛ برعاية الأمم المتحدة) عن الضغط لمنع مثل هذا العفو أو تجزئته على الأقل، والتعامل معه بالمفرق وليس بالجملة.
أما رئيس “التيار الوطني الحر” (جبران باسيل)، فقد طالب أكثر من مرة بعلاقات طبيعية مع “إسرائيل”، وبوجود مصالح مشتركة معها، سيما وانه التقى بقيادات في الإيباك – اللوبي الصهيوني في أميركل، حينما زارها برفقة العماد ميشال عون قبل عودته إلى لبنان، وهي من سهّل له شؤون الزيارة، وأمّنت له لقاءات مع مسؤولين امريكيين.
– يثير البعض مسألة الولاء الوطني حيال مناقشة موضوع الهاربين، فيتهم بعض اللبنانيين بولائهم لإيران؟ فليس من المقبول تشبيه إيران بالعدو، فإيران ليست دولة عدوا للبنان بحسب الدستور كما حالة “إسرائيل”.
– وفي المقابل يثير آخرون، موضوع عدوان مسلحي “داعش” على الجيش اللبناني وقوى الأمن اللبنانية، وقتل عدد كبير منهم في جرود عرسال قبل سنوات؛ في الوقت الذي تمت مفاوضتهم، ثم نقلهم “حزب الله” ذاته بالباصات إلى إدلب على مرأى ومسمع الجميع، كما أن بعض المطلوبين الفارين من العدالة المشمولين بالعفو – إذا تم – كانوا قد اعتدوا واشتبكوا مع الجيش اللبناني وقتلوا بعض أفراده، فلماذا يُستثنى معتقلون من العفو العام بذريعة الاعتداء على الجيش اللبناني؟
وهل الاعتداء على الوطن والشعب – كمن يضع المتفجرات القاتلة مثلاً – لا يعني ضمنا الاعتداء على الجيش الوطني؟
– هل لكل هذا التعاطي بهذا الشكل الغامض علاقة بالصفقة الرئاسية، أم أن بعض الأشخاص بتطلع إلى الرئاسة المقبلة؟ أو بتشكيل الحكومات والتوزير؟
وهل له علاقة بترسيم الحدود البحرية والغاز والنفط في بحرنا الأبيض المتوسط، الذي احمر وجهه خجلا من تهافت سلطتنا الغامضة؟
– كل هذا يعيد طرح ظاهرة الصهينة في لبنان، يبدو أن لها رؤوسا متنوعة متوزعة، ولها تواطؤات وتسهيلات متعددة وأكبر مما نتخيل. وأن لها أزلاما يتحدثون لغتنا ويعيشون بيننا ويتحملون مسؤولية بعض مصائرنا، وبعض أدواتها يعيثون فسادا في إعلامنا ومؤثرات حياتنا، فيفسدون ذوقنا العام وأجيالنا الشابة، ويمعنون في امتهان أخلاقنا الاجتماعية والوطنية أيضا.
إن متصهينين غامضين متخفين، لهم أكثر خطرا وسوءا من أولئك الواضحين المعروفين.
وأخيرا أين الأحزاب الوطنية من كل هذا وما يجري؟
إن اصطناع سجالات ومناكفات بين أطراف السلطة حول قانون العفو العام، ما هو إلا للمخادعة والتلاعب بالناس حد الاستحمام.
وفي الخلاصة، يضاف كل هذا إلى سجلات الفساد والفضائح والتبعية والارتهان للخارج، واستباحة كل شيء؛ والتي لم تعد تتسع لها أكبر سجلات الحفظ والتدوين، ما يستدعي ويستعجل الحلّ الوحيد المتاح، وهو انتفاضة جريئة متناسقة منظمة واضحة المعالم والأهداف..” كلّن يعني كلّن”.
المصدر: المدار نت