
في خضمّ الأحداث التي تعصف في البلاد منذ 13 تموز الجاري، بسبب ما يجري في محافظة السويداء من مقتلة سورية بالغة التعقيد والشناعة بآن معاً، ظهر مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي لمجموعة من الأشخاص يتجمعون أمام مبنى البرلمان السوري في دمشق بتاريخ (18 تموز الجاري)، يحملون لافتات تتضمن عبارات (الشعب السوري واحد – دم السوري على السوري حرام) في إيحاء واضح بأنهم يؤكّدون -بطريقة سلمية خالية من أي مظهر من مظاهر العنف والصخب- رفضهم للاقتتال السوري-السوري، ويطالبون بتدخّل مباشر لحقن الدماء، وفي سلوك مضاد.
يُظهر الفيديو ذاته مجموعة أخرى من الأشخاص تهاجم المحتجين وتحاول الانقضاض عليهم بغية تفريقهم وتقريعهم، كما يظهر في المجموعة المُهاجِمة شخص يعتدي على سيدة بالشتم، مُهدّداً إيّاها بما هو أقسى من ذلك، إذ ينادي بصوت واضح: (أعطوني عصا، أنا لا أمدّ يدي على النساء).
لا أدري لماذا لمع في ذاكرتي وبسرعة كلمح البرق، كلام رفعت الأسد، ردّاً على اتهامه بقتل السوريين في مجزرة حماة، شباط 1982، وسواها من المجازر: (أنا بحياتي لم أرفع يدي على أي سوري)، في حين أنّه كان الآمر الفعلي والقائم المباشر على أكبر كيان عسكري قمعي متوحّش “سرايا الدفاع”، التي قتلت -بالاشتراك مع (الوحدات الخاصة التي يرأسها حينذاك اللواء علي حيدر)- قرابة 30 ألف مواطن في مدينة حماة، فضلاً عن أنه كان صاحب القرار في ارتكاب مجزرة سجن تدمر – حزيران 198، التي أودت بأرواح ما يقارب 800 معتقل سياسي.
الأشخاص الذين اعتدوا على المحتجين أمام مبنى البرلمان، ومن ضمنهم الذي شتم السيدة، لم يكن لهم أي صفة وظيفية، لا في الأمن ولا في أي مؤسسة أخرى، بل هم متطوّعون بممارسة الإساءة، ضدّ من؟ ولماذا؟
طهرانية رفعت الأسد الذي لا تسمح له أخلاقه ومبادؤه أن يرفع يده لإهانة أي سوري، هي ذاتها الطهرانية التي يحاول تقمّصها الشخص الذي اعتدى على السيدة -كانت إحدى معتقلات الرأي في سجون الأسد سابقاً- إذ لا تتيح له قيمُه ونخوته الرجولية أن يلمس امرأة بيده، فيطالب بعصا لتكون وسيلة تمكّنه من تجسيد رغبته بالعدوان، ويا لها من شهامة عظيمة أن يستخدم هراوةً بدلاً من الضرب المباشر بيده، في حين وقفت السيدة المُعتدى عليها مذهولةً تتساءل عن سبب شتمها والتهجّم عليها.
والحال أنني أقرّ بعدم القدرة على التعاطي مع المشهد المذكور بدرجة معقولة من الموضوعية، ولا أملك زجرَ هالةٍ من الصور التي تنبثق من ذكريات دفينة تحمل في طياتها مشاهد لأشخاص سلطويين (سجانون وجلادون وعناصر مخابرات)، وهم يعتدون شتماً وضرباً على معتقلات ومعتقلين في السجون الأسدية أو أقبية التحقيق والتعذيب، مع إدراك الفارق أن (السجان أو الجلّاد أو عنصر المخابرات) موظفون لدى مؤسسات سلطوية، وإنهم إذ يمارسون انحطاطهم بحق المواطنين، فإنما ينفّذون ما أُوكل إليهم من أوامر، أي ثمة علاقة مهنية بينهم وبين ما يمارسونه من أذى، أمّا الأشخاص الذين اعتدوا على المحتجين أمام مبنى البرلمان، ومن ضمنهم الذي شتم السيدة، لم يكن لهم أي صفة وظيفية، لا في الأمن ولا في أي مؤسسة، بل هم متطوّعون بممارسة الإساءة، ضدّ من؟ ولماذا؟
ثمة عبارة يكرّرها ضبّاط المخابرات داخل السجون الأسدية على مسامع المعتقلين السياسيين: (نسجنكم حفاظاً على أرواحكم، ولو تركناكم لقتلكم الشعب )، وإن كان من الصحيح أن العبارة السالفة تنطوي على قدر هائل من التضليل، إلّا أن ثمة أصلاً واقعياً لها، وأعني بذلك أن ثمّة متطوعين للقيام بمهمة عنصر الأمن أو الجلاد، فهل السلطة بحاجة إلى مساعدة من هذا النوع؟ أليس لديها فائض هائل من السجانين والجلادين وعناصر المخابرات؟
نعم ليست بحاجة ولديها هذا الفائض، ولكن ربما لإثبات ولائهم الصادق للسلطة والبرهنة على حسن سلوكهم وارتفاع منسوب الحس الوطني لديهم، أو طمعاً بنيل رضى السلطة والظفر ببعض المكاسب أو النفوذ لديها، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يمارسون أذاهم وانحطاطهم على المجرمين واللصوص والقتلة مثلاً، لماذا التطوّع بممارسة الأذى تجاه أصحاب الرأي وأصحاب المواقف المناهضة للسلطة؟ هل لأنهم الطرف الأضعف؟
الجواب ببساطة، لأنّ السلطة تُجرّم أصحاب الرأي، وتنظر إلى أي صاحب موقف أو رأي مباين لموقفها على أنه جريمة تفوق أية جريمة جنائية أخرى، وبناء عليه، ومع وصول القمع والتوحّش السلطوي إلى ذروته في سوريا خلال العقود الخمسة الماضية، فقد بات التطوّع بممارسة الأذى والإساءة إلى مناهضي السلطة مهنةً لدى فئات عديدة من خارج قطّاع مؤسسات السلطة، تمكّن صاحبها من الوصول إلى الحاكم والتماس ودّه، والحصول على بعض النفوذ الذي يمكّنها من ممارسة السمسرة والتغوّل على حقوق البشر وجميع أشكال الزعرنة.
لم يكن مصطلح “التشبيح” قد تبلور إلّا في تسعينيات القرن الماضي، وظهر في مناطق الساحل السوري حصراً، وكان يُطلق على مجموعة من أصحاب النفوذ الذين يمارسون مهنة تهريب المخدرات والسطو والخطف..
ولعله من الطبيعي أن يتنامى دور هذه الفئة وتغدو أكثر انتشاراً كلّما ازداد منسوب الفساد لدى السلطة، بل ربما كان الأصح: كلّما ازدادت السلطة انحطاطاً وفساداً ازدادت حاجتها إلى هؤلاء، وقد سبق لحافظ الأسد أنْ قال عبارته المشهورة في ثمانينيات القرن الماضي، حين وصله عدد من الشكاوى والتذمّر من سلوك المتنفّذين: “المرحلة وسخة ونحن بحاجة للوسخين”.
لم يكن مصطلح “التشبيح” قد تبلور إلّا في تسعينيات القرن الماضي، وظهر في مناطق الساحل السوري حصراً، وكان يُطلق على مجموعة من أصحاب النفوذ الذين يمارسون مهنة تهريب المخدرات والسطو والخطف، ومعظمهم ينحدر من جسد السلطة الحاكمة، ولم يتوانوا عن مجابهة السلطة بالسلاح حين تقتضي مصالحهم ذلك.
ومع انطلاقة الثورة السورية في آذار 2011، بات هذا المصطلح يُطلق على جميع الفئات الرديفة للسلطة والتي تمارس القمع بحق المتظاهرين، وقد أتاح اتساع النفوذ الإيراني في سوريا لهؤلاء أن يتّسع طيفهم ويصبح لهم علاقات مع أطراف دولية، ومنهم من تحوّل إلى رجال أعمال وقراصنة ناشطين لإقامة صفقات مال وسلاح ومخدرات تتجاوز المستوى المحلّي.
منذ اندحار نظام الأسد في 8-12-2024، تحاول فئات عديدة من الشبيحة العودة لتأسيس مرحلة جديدة من التشبيح، وبوقاحة قل نظيرها، طالما أن غياب الرادع الأخلاقي لهؤلاء هو الشرط الملازم لاستمرارية عملهم، فقد رأيناهم في مظاهر شتى، سواءٌ عبر التسلل إلى صفوف المسؤولين لالتقاط الصور، أو عبر إقامة الولائم وإبداء استعدادهم لتقديم خدمات معيّنة، أو عبر توظيف نفوذهم المالي، وصولاً إلى المشهد الصارخ بالقذارة، المشهد الذي ورد في بداية المقالة، ولعل ما هو أشدّ إيلاماً رؤية بعض هؤلاء وهم يتسلّلون إلى صفوف قوات العشائر التي تقاتل في السويداء وهم يلوّحون ببنادقهم ويهتفون، معبّرين عن ولائهم لزعيمهم (فرحان المرسومي).
تنبغي الإشارة إلى أنّ السلطة الحاكمة لا تدفع باتجاه صعود أو بروز هذه الطبقة من البشر، فهي على سبيل المثال تمنع انتشار صور الرئيس أحمد الشرع وتعليقها على الجدران أو في الأماكن العامة، كذلك تمنع تمجيد شخص الرئيس والهتاف باسمه، وهو مسعى محمود يؤكّد رغبتها في إحداث قطيعة مع الإرث الأسدي، إلّا أن المرجو هو عدم اكتفاء السلطة بالتفرّج على هؤلاء أو عدم الترحيب بهم فحسب، بل ينبغي العمل للقضاء على هذه الظاهرة من خلال اجتثاث أسبابها وبواعثها، كما ينبغي مكافحتها -قانونياً وقضائياً- وعدم الاغترار بتصفيق هؤلاء ونفاقهم الزائد، فموبقاتهم كفيلة باستحالة أي خير يرجى منهم.
المصدر: تلفزيون سوريا