المخاض السوري… طائفية وظيفية

علي العبدلله

بغضّ النظر عن السبب المباشر لانفجار القتال بين البدو والموحّدين الدروز في محافظة السويداء، وعن أنه مُدبَّر أو عفوي، فإن السلطة السورية الجديدة ركبت الموجة، وجرّدت حملة من قوات وزارتي الداخلية والدفاع على خلفية تقدير موقف مفاده بأن انخراطها في المفاوضات مع الكيان الصهيوني سيمنع هذا الأخير من التدخّل ضدّ تحرّكها لبسط السيطرة على المحافظة، التي رفضت الانضواء تحت سلطتها بشروطها، خصوصاً أنها متسلّحة بمباركة أميركية لتوجّهها لإقامة نظام مركزي في سورية. غير أن عمليات قتل المواطنين من أبناء طائفة الموحّدين الدروز وإذلالهم، وحلق شواربهم وإطلاق وصف “خنازير” عليهم التي وصفها معلّقون بمجازر معنوية، ونهب بيوتهم وحرقها، وتصوير ذلك وبثّه في وسائل التواصل الاجتماعي، منح الكيان الصهيوني فرصة لتجاهل الموقف الأميركي الداعم للسلطة في سعيها إلى بسط نفوذها على المحافظة المتمرّدة، والتدّخل بذريعة حماية الموحّدين الدروز، في حين كان هدفه الحقيقي تنفيذ تصوّره إزاء مستقبل سورية القائم على تفكيكها وإضعافها، بدءاً بفرض منطقة منزوعة السلاح في المحافظات الجنوبية الثلاث، القنيطرة ودرعا والسويداء، وصولاً إلى فرض نظام محاصصة فيها، ولعب دور مقرّر في سياساتها الداخلية والخارجية.
جاء زجّ العشائر العربية في مواجهة فصائل عسكرية من الموحّدين الدروز، فصائل موالية للشيخ حكمت الهجري على وجه الخصوص، لاحتواء تبعات فشل محاولة السلطة السورية الجديدة بسط سيطرتها على محافظة السويداء، واضطرارها لسحب قوات وزارتي الداخلية والدفاع، بعد دخول قوات الكيان الصهيوني خطّ المجابهة، وتنفيذها عدة غارات جوية لم تقتصر على استهداف قوات وزارتي الداخلية والدفاع في محافظة السويداء، بل غطّت مساحاتٍ شاسعة من الأرض السورية من الجنوب إلى الساحل، مستهدفة مواقع عسكرية، وبنى تحتية وخدمية، ومراكز سيادية. زجُّ العشائر خطوة ذكية وخطيرة في آن، تقيّد تدخّل قوات الكيان الصهيوني، من جهة، وتستبدل، من جهة ثانية، الحرب الأهلية بالمواجهة القائمة بين السلطة وقوى سياسية متمرّدة عليها، واضعاً سورية برمّتها في موقع الخطر والانفجار.

سينظر إلى قول السلطة السورية الجديدة إنها تعتبر الموحّدين الدروز جزءاً أصيلاً من الشعب السوري، ووعدها بمحاسبة مرتكبي الجرائم بحقّ المواطنين، ذرّاً للرماد في العيون، لأنها لم تفعل ذلك طوال الشهور الماضية

كانت تقديرات السلطة السورية الجديدة، كما عكسها حجم القوات والعتاد الثقيل، دبّابات وراجمات صواريخ وطائرات من دون طيّار (من نوع شاهين)، أن حسم الموقف والسيطرة على المحافظة بسرعة سيحدّ من فرص تدخّل قوى إقليمية ودولية، ومن تحفّظ منظّمات حقوقية وأممية، قبل أن تصطدم هذه التقديرات بالواقع، وتكشّف عدم صحّة قراءتها مواقف القوى الإقليمية والدولية، التي انتقدت، بقوة، سلوك قوات وزارتي الداخلية والدفاع، ضدّ المدنيين من الموحّدين الدروز، من قتل وإذلال ونهب وحرق البيوت، ودعت إلى محاسبة مرتكبي هذه الأفعال، هدّد مسؤولون أوروبيون بإعادة فرض العقوبات الاقتصادية مجدّداً. كان تصريح وزير الخارجية، ماركو روبيو، أكثر التصريحات الأميركية حدّة، إذ دعا الحكومة السورية إلى استخدام قواتها الأمنية لمنع “الجهاديين العنيفين” من دخول السويداء و”ارتكاب مجازر”.
جاءت نتيجة الحملة العسكرية بالضدّ من تقديرات السلطة السورية الجديدة، خسائر كبيرة في القوات والعتاد، وانسحاب اضطراري تحت تهديد صهيوني باجتياح برّي يصل إلى حدود العاصمة دمشق، وباستهداف السلطة مباشرة، ودعا وزير شؤون الشتات، عميحاي شيكلي، إلى القضاء على الرئيس الانتقالي أحمد الشرع فوراً، وفرض توازن قوى في ساحة المواجهة في غير صالح السلطة، لم تنجح “فزعة” العشائر العربية بتعديله عملياً، وظهر جلياً في بنود وقف إطلاق النار، الذي انطوى على التسليم بسيطرة أمنية للموحّدين الدروز على المحافظة بموافقة السلطة السورية الجديدة، وعلى انفرادهم بتسلّم الحواجز التي ستراقب الدخول إلى المحافظة والخروج منها، والاعتماد على ضبّاط من أبناء المحافظة للحفاظ على الأمن فيها، والاكتفاء بسحب السلاح الثقيل، ناهيك عن الإقرار بالمحافظة على خصوصية السويداء، ما يتعارض مع مبدأ سيادة الدولة في كلّ أراضيها، ويشكّل سابقة قد توظّفها قيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في دعم مطالبها بالاستقلالية العسكرية والأمنية.
لعبت توجّهات (وممارسات) السلطة السورية الجديدة، التي لا تزال تعيش مناخات حكمها محافظة إدلب، واستمرار سعيها إلى إقامة إمارة سُنّية، دوراً في تعميق الانقسام الداخلي وتكريسه، إن بتجاهلها وجود نسبة وازنة من السوريين من غير السُّنّة، وأنهم يتطلّعون إلى المشاركة الفعلية في تحديد توجّهات الدولة وخياراتها وصياغة قراراتها السياسية والاقتصادية والأمنية، عبر إقامة نظام تشاركي تعدّدي على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، في تعارضٍ صارخٍ مع سلطة تتبنى خيارات سلفية، وتعمل على تحويل السُّنّة العرب إلى عصبية للسلطة، جيش سُنّي بعقلية وثقافة سلفية، وإدارات الدولة تخضع لرقابة مشايخ، دورهم أشبه بدور المفوّض السامي في الدول المُستعمِرة، وتعيينات على قاعدة الولاء لا الكفاءة، وتحويلهم (السُّنّة العرب) إلى أداة لمواجهة بقية المكوّنات السورية الأخرى، عبر إيهامهم بأن الدولة باتت دولتهم، وملك يمينهم، وعليهم المحافظة عليها بالالتفاف حول السلطة لتعزيز (وتكريس) سيطرتها على المجتمع. تشكيلة طائفية وظيفية، هدفها امتلاك الدولة وإلحاقها بالسلطة.
لم تكن المواجهة الدامية بين البدو والموحّدين الدروز مجرّد صدام بين مكوّنين سوريين تباينت مصالحهما، بل غطاء لبسط سيطرة السلطة السورية الجديدة على محافظة السويداء، وفق شروطها وتوجّهها لإقامة نظام رئاسي مركزي، وهو ما عكسته التجريدة العسكرية الضخمة، وعتادها الثقيل، دبابات وراجمات صواريخ ومسيّرات شاهين، التي لا تتناسب مع ما قيل إن هدفها هو “التهدئة”، ما اعتبر استفراداً بالموحّدين الدروز، ودفعهم نحو الاستسلام للسلطة، من دون اعتبار لمطالبهم بنظام تعدّدي تشاركي، والانخراط في مفاوضات جادّة معهم، بعيداً عن لغة السلاح، التي يمكن أن تجذب قوى محلّية وإقليمية ودولية تسعى إلى المحافظة على نفوذ قديم، أو الحصول على موطئ قدم جديد. فالخلاف السياسي بين السلطة وقيادات روحية وسياسية وعسكرية في محافظة السويداء لا يحلّ بالقوة، بل بالسياسة، وبالبحث الجدّي معهم حول منطقية وأحقّية مطالبهم، بالاستناد إلى رؤية وطنية شاملة، أساسها سورية آمنة ومستقرّة، دولة لكلّ مواطنيها. وهذا لم يتم. والأنكى ذهاب السلطة ومواليها لتجريم وتخوين الموحّدين الدروز، والحطّ من مكانة قياداتهم الروحية ممثّلة بالهجري، الذي بات هدفاً للتجريح والتخوين بعد أن كان مثالاً للشجاعة والوطنية، وبعد الإشادة بمواقفه وطروحاته حينما كان يبارك ويشجّع اعتصام ساحة الكرامة ضدّ النظام البائد، ويدافع عن مطالب المعتصمين، وتتطابق مواقفه العامّة (دولة مدنية علمانية، وسورية موحّدة) مع مواقف المعارضة السورية، أضاف إليها الآن التعددية والتشاركية ردّاً على استئثار السلطة السورية الجديدة بكلّ السلطات والصلاحيات، فالشيخ الهجري يعمل في المحافظة لما يعتبره كرامة الموحّدين الدروز، وهذا ما لم يجده في توجّهات (وممارسات) السلطة السورية الجديدة، فتحفّظ وعارض، وطالب بدولة يسودها القانون وتدار بالأكفاء لا بالموالين، تعترف بجميع مكوّناتها وتكفل حقوقهم.

عمّقت توجّهات السلطة السورية الجديدة الفئوية والتمييزية الانقسام الداخلي بتجاهلها وجود نسبة وازنة من السوريين غير السُّنّة

قادت سياسات السلطة السورية الجديدة (الفئوية والتمييزية) إلى دفع الهجري لشدّ العصب الطائفي بطائفية وظيفية مضادّة، بتخويف الموحّدين الدروز من السلطة السورية الجديدة، التي نعتها بالتكفيرية، والعمل على توفير دعم دولي لمطالبه، عبر الحديث عن إبادة جماعية ضدّ الموحّدين الدروز، لكن من دون نجاح كبير، فالإدارة الأميركية، التي حدّدت مستقبل سورية وموقعها ضمن تصوّرها الشرق الأوسط الجديد، وباركت توجّه السلطة السورية الجديدة لإقامة نظام رئاسي مركزي، لم تكتفِ بتجاهل رسائل الموحّدين الدروز والعلويين والكرد، بلّ شكّلت غطاءً وحماية للسلطة، ما وضع الهجري في موقف دقيق وحرج، ودفعه نحو التخبّط وارتكاب الإثم الأكبر بطلب الحماية والدعم من الكيان الصهيوني، الذي يحتلّ أرضاً سورية، وفلسطينية، ويبيد الفلسطينيين في قطاع غزّة والضفة الغربية، وتحوّله هدفاً للتصويب عليه، وتحوّل الموحّدين الدروز “بطّة سوداء” لدى قطاعات واسعة من السوريين، وتحوّلت المواجهة بينه وبينهم مواجهة صفرية، خصوصاً بعد قصف الكيان الصهيوني قوات وزارتَي الداخلية والدفاع وتجمّعات العشائر في محيط مدينة السويداء، ومدّ عدوانه نحو مواقع عسكرية في الجنوب والساحل، وسيادية في العاصمة دمشق، ما انعكس سلباً على وضع الموحّدين الدروز الداخلي، على خلفية إدانة قوى عسكرية ودينية درزية مثل قوات رجال الكرامة، وقوات شيخ الكرامة، وتجمع أحرار جبل العرب، طلب الحماية، وتعرّضها لهجوم من فصائل المجلس العسكري، التي هاجمت مقرّات تجمّع أحرار جبل العرب وقوات شيخ الكرامة في السويداء، مع اتهامها بالخيانة والتعامل مع الدولة ضدّ الطائفة.
لن يجدي قول قيادة السلطة السورية الجديدة إنها تعتبر الموحّدين الدروز جزءاً أصيلاً من الشعب السوري، ولا وعدها بمحاسبة كلّ من ارتكب جرماً بحقّ المواطنين من كلّ الجهات، في رأب الصدع وجسر الهوة بين الطرفَين، إذ سينظر إلى أقوالها ذرّاً للرماد في العيون، لأنها لم تفعل ذلك طوال الشهور الماضية، وذهبت بعيداً في عنفها ضدّهم خلال المواجهات الأخيرة، فالمَخرج العملي الذي قد يفتح طريق المصالحة واستعادة الثقة يكمن في طرح مبادرة سياسية جادّة، وإطلاق مسار وطني حقيقي للتوافق على شكل النظام وعلى التوجّهات السياسية والاقتصادية المناسبة لإخراج البلاد من حالة الاستعصاء المدمّرة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى